Culture Magazine Monday  14/07/2008 G Issue 255
فضاءات
الأثنين 11 ,رجب 1429   العدد  255
 

علاج .. ومتعة
خالد البسام

 

 

زار شاب صغير جدته المريضة يوماً ما في مستشفى ألماني كانت تعالج فيه فوجدها مستغرقة في القراءة. وعبثاً حاول أن يتحدث معها أو حتى أن يسلم عليها، ولكنها تجاهلته طويلاً. وصبر الشاب على جدته الطاعنة في السن، ولم يجد أمامه، وهو الذي قطع كل هذه المسافة الطويلة آتياً من مدينة بعيدة في الشمال، لم يجد سوى الانتظار.

وبعد حوالي ساعة كاملة خلعت الجدة نظارتها السميكة وطالعت حفيدها وقالت له بابتسامة عريضة: سامحني يا بني.. لقد كنت أتعالج!

وضرب الابن أخماساً في أسداس وهو يحاول كيف أن جدته كانت تتعالج وهي كانت طوال الوقت تقرأ في ديوان شعر!

ولم تطل حيرة الشاب كثيراً. فقد دخل طبيب ببذلته البيضاء وتحدث مع الجدة، ثم قام وأعطاها كتاباً آخر وقال لها بالحرف الواحد: هذه هي الجرعة الثانية يا عزيزتي ثم صافحها مودعاً.

لم تكن السطور السابقة حكاية من الخيال ولكنها مجرد عينة من بعض المستشفيات الغربية التي صارت تعالج بعض الأمراض بالقراءة التي تركز على التداوي بالكتب!

ولا يوجد في كلامي اليوم أية مبالغة على الإطلاق. فقد صار العلاج بالقراءة أمراً معترفاً به حتى من جانب علماء النفس ومؤسسات العلاج في العالم.

أما أنواع العلاج بالقراءة فهي تتمثل في الشعر والقصص والروايات والخيال العلمي والتراجم والسير والمذكرات وغيرها.

أما الأمراض التي تعالج بالقراءة فهي حالات القلق والمشكلات الجنسية والخوف وتعاطي المخدرات والسمنة والتوتر وبعض الأمراض العضوية.

وحسب الخبراء فإن التداوي بالقراءة هو علم له أصول وشروط. فهو ليس دعوة مفتوحة لكل مريض لتناول جرعات من الكتب التي يجدونها في متناولهم. بل من المهم أن يعرف المريض ماذا يقرأ وعلى الطبيب المعالج أن يختار الكتاب المناسب له، ونوعية الكتب التي يحتاجها.

بل ويحذر العلماء من قراءات غير مدروسة وكتب قد تسيء إلى وضع المريض وتؤدي إلى تدهور حالته. فتصور مريضاً بالخوف يقرأ مثلاً رواية مملوءة بالرعب والجريمة!

لكن الأهم من العلاج في رأيي اليوم هو تلك المتعة الرائعة التي تعطينا إياها القراءة.

ففي رواية قديمة للكاتب الإنجليزي (هـ.ج. ويلز) ينهض البطل من إغماءة عصبية طويلة فيلقى نفسه في العام 2200م. ولدهشته فإنه يكتشف أن الكتب قد غدت أشياء عالمية، وأن الناس لم تعد تكترث لها بل هي تغرق في أشياء أخرى تعرض على شاشات تلفزيونية. وينهار بطل الرواية في النهاية، حيث تنهار قواه أمام طغيان الأفلام والصور والأصوات الصاخبة وتزاحم الناس وتدافعهم في محيط خالٍ من الكتب، وتنهمر الدموع من عينيه ويتوسل إلى الآخرين كي يأخذوه إلى غرفة ليقرأ! من المؤكد أننا لا نحتاج إلى الصبر لتلك السنوات المتوقعة لمستقبل القراءة المظلم الذي رسمته تلك الرواية المؤثرة، فالقراءة الآن وفي المستقبل أصبحت في خطر بسبب التراجع الكبير في أعداد الذين يقرؤون أمام أخطبوط التلفزيونات والإنترنت وغيرهما. وبحسب الناقد البريطاني (جون كاري) في كتاب جديد له حول القراءة بعنوان (متعة مجردة) فإن المتعة التي يشعر بها القارئ هي متعة فريدة لا مثيل لها في أي نشاط إنساني آخر. القراءة من الممارسات النادرة التي ينفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات. ولكنها أيضاً من الممارسات التي نقلت الإنسان إلى مستوى عالٍ من الحضارة. ووجد الناقد أن الفجوة التي تفصل أولئك الذين يقرؤون عن الذين لا يقرؤون فجوة عميقة. ويكاد كل طرف ينظر بعين الريبة إلى الطرف الآخر. والذين لا تستهويهم القراءة عادة ما ينظرون إلى هواة القراءة حانقين معتبرين أنهم مصابون بلوثة غامضة. والعكس صحيح أيضاً، فالمدمنون على القراءة يستغربون من قدرة هؤلاء على العيش من دون قراءة. وتزداد الصعوبة في المجتمعات الحديثة الغارقة في الاستهلاك واللهو وغيرهما في شرح فوائد القراءة والدافع الذي يقف وراء السعي في قراءة رواية وقصة أو ديوان شعر بلهفة واشتياق. إذا قلت: إن القراءة تفتح الذهن وتوسع أفق المعرفة وتفتح نوافذ إضافية على الحياة قيل إن السينما والتلفزيون والأفلام تفعل الشيء نفسه فلم التمسك بالقراءة؟! القراءة بحسب رأي الناقد البريطاني هي ذلك العالم السري، الغامض، المثير للرهبة والرغبة والشغف الذي ينفتح ما إن يفتح المرء كتاباً ويروح يغوص في الحروف الصامتة المتلاحقة على الورق. وعندما يقرأ الإنسان يعني أن يصير سيداً لذاته وذوقه وخياله ورغباته. وهي تعطيه لحظة خاطفة تبعث النشوة في القارئ وتوفر له فضاء جميلاً مليئاً بالغبطة. ليست القراءة متعة ذاتية وعلاجاً ناجحاً فقط، بل أظنها جازماً رفيقة عمر من الورق والحكايات والأحلام والجلسات الحميمة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة