في 12 كانون الأول 2007 نهار الاحتفال الخاص بالذكرى الثانية لاغتيال الصحافي النائب جبران تويني، وقف والده غسان شاباً بعمر الثانية والثمانين، أنيق القسمات، وضاح الكلمة والحكمة والكفاحية. فلا أخاديد العمر، ولا متاعب المهنة، ولا الموت المتوالي عليه بالغاً حد المساكنة في الابنة والزوجة والابن ثم الابن، جميعها لم تقو على تهدج صوته يغمرنا بالسعادة التي واتته من على المنبر حينما انتبه إلى أن أمامه جيلين (من أحفاده) سيتوليان بعدي وبعد جبران المهمة بل الرسالة.
حزن من شأنه أن يكسر الظهر، غير أن صلابة هذه القامة، الإغريقية بأكثر من معنى، طلعت كذلك في هذه اللحظة من تباشير الفجر التي تلون حزن هذا الجد، فتكتمل التراجيديا ودورة الحياة:
(النهار) مستمرة. وأفضل عدد أصدرته جبران.
لقد كتبت التراجيديا الإغريقية مفارقات مهولة، ومنها الابن الذي يقتل أباه، أو يسمل عيني أمه، أو...
إلا أن المساهمة اللبنانية في سفر التراجيديا الإنسانية، المعاصرة بخاصة، تضع أمامنا على خشبة المسرح. الواحد في النهاية، وربما للمرة الأولى، مفارقة مغايرة: الأب الذي يرث الابن، إثر عملية اغتيال يُراد بها أن يرث القاتل تركة القتيل. أن يكون موت (للنهار) بلا ميلاد. أن تنقرض الجريدة التي عمّرها غسان تويني نهاراً نهاراً مدرسة في الصحافة، مرموقة فريدة متميزة في دنيا العرب والعالم. أن تندثر معها (المهمة) التي حق لغسان أخيراً أن يسميها، بكل تهذيب التواضع ونبل كبريائه، باسمها الحقيقي إلا وهو (الرسالة).
أجل أن الصحافة، في ممارسة هذا الصحافي، أكثر من مهنة. إنها رسالة. أن لم يكن الأمر كذلك، ربما يغدو صعباً استقراء ذلك الشغف الذي باشرها به غسان يافعاً منذ أن توقف عن متابعة دراسته الأكاديمية في الفلسفة بالولايات المتحدة الأمريكية ليتسلم مهمة إصدار (النهار) بعد وفاة والده جبران المؤسس. وبهذه الروحية، تمكن بعد سنوات قليلة من الارتقاء بها في معارج تكريسها حاضرة بمثابة قسمة رغيف الخبز الأخرى في ترويقة اللبنانيين مطلع كل صباح.
نبل رسالة الصحافة مع (نهار) غسان تويني التزام بالاثنتين معاً: الحقيقة والحرية؛ فالكتابة الصحافية، في جوهرها، تتعارض وخدمة الكذب والباطل، ولا يسعها أن تقوم أبداً على خدمة العبودية والاستبداد. هذا الالتزام واجب صعب بالتأكيد، بل مكلف جداً في أحيان غير قليلة، ولا سيما في منطقة تكثر فيها نظم من الحكم تقتات من تجهيل الحقيقة وطمس الحقائق، ومن مصادرة الحرية وإلغاء الحريات، بحيث يغدو الخوف وإشاعته المنظمة الأسمنت المسلح الذي تبنى عليه هذه الأنظمة ديمومتها المؤبدة.
ولقد تعرض صاحب هذا الالتزام وهذه المدرسة الصحافية للاعتقال والسجن مرات. مثلما فرض عليه وعليها أن تنكتب الحقيقة والحرية والسعي إليهما والدفاع عنهما لا بالقلم ومداده وسواد الحروف المطبعية، بل بقلب ودم اثنين من أشجع وأغلى فرسان الكلمة والفكر من كتابها: سمير قصير وجبران تويني. بين القلب والقلب، قلب آخر هو غسان الذي طالما آنس في دواخله أنه ما انفك ينزف ويتعلم فيما هو يعلم. في الافتتاحية التي يكتب، أو في المحاضرة التي يلقي، أو في الحوار الذي يُطلق، أو في الحدث الذي يتناول.
الصحافي الذي يكتب للناس بالدم الإنساني لا يكتب. إنه يراكم وعياً ومعرفة، فيما ينتقل من صفحة الجريدة ليعبر التاريخ المصطخب بالمآسي في الأحلام. إنه لا يكتب، بل يحمل على كاهله البؤس والرجاء اللذين يتقاسمهما مع كل من يعيش الحدث ذاته. وبهذا لا تعود الكتابة في مدرسة غسان تويني، مسألة تقنية، بل إبداع منتسب إلى الشوق ذاته الذي به خاطب السيد المسيح بيلاطس قائلاً: (أتيت إلى العالم لأشهد للحق). بالنسبة إلى غسان، لم تكن (النهار)، أو خطاب حياته، إلا هذه الشهادة. لذا، كان عليه أن يحافظ على استقلاليتها الكاملة. أن يحررها من أي ارتهان. فهو لم يرث من والده المؤسس ثروة، بل مسؤولية عن مشروع نهضوي تنويري. وبخلاف بعض من يظن أن الصحافة تفتح أبواباً، أن للثراء أو لسوء ذلك من منافع خاصة، تمكن هذا الصحافي اللامع من أن يجعل جريدته مخمراً لتناقش سياسي ناضج، وموئلاً لتخاصب ثقافي مغنٍ، ومركز إشعاع وصقل وإنضاج وإبراز للمواهب والطاقات والإبداعات الشابة؛ فكان لا بد من أن تولد (دار نشر) من رحم الجريدة ذاتها وباسمها أيضاً. وليس هذا من قبيل المباهرة بالاسم بقدر ما هو تأكيد على جوهر المشروع النهضوي الواحد ذاته: الجريدة تفتح آفاقاً، وليس أبواباً أمام أحلام صغيرة.
كان من الطبيعي جداً أن يتجلى التعبير الأول عن الآفاق الجديدة مع رواد الرعيل الأول من النهضة، بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، وفي مثال أحمد فارس الشدياق وإبراهيم اليازجي بخاصة، بالانكباب على نحت الأسماء والمصطلحات للتسميات والمخترعات الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل، لا في الحياة العربية ولا في اللغة العربية ومعاجمها. وكان على الصحيفة أو الجريدة - وهما لفظتان ابتكرتا أصلاً في ذلك العهد - أن تكون هي المجمع اللغوي العربي الحقيقي الأول، وأن تأخذ على عاتقها مسؤولية ابتكار اللفظة والتدليل على معناها وتعميمها في آن. الأولوية انعقدت، إذن، على تسمية الأشياء والتعريف بها، وليس على القارئ بذاته، إن جاز هذا القول على سبيل الإيضاح، على ما فيه من فصل تبسيطي.
أما مع الرعيل الثاني من رواد النهضة، الأدباء المجددين؛ فانفتحت من خلال الصحافة آفاق جديدة على مستوى الكتابة نفسها، بحساسياتها الجديدة وأساليبها وفنونها، وقضاياها بتفاعل كاتبها مع أوضاع المجتمعات ومسائلها. وليس لي هنا أن أفصل في ذلك كله. وربما يصح القول إن الكاتب بذاته كان الأولوية المثيرة للاهتمام بالدرجة الأولى. قل الأديب بالأحرى، والذي كان ينطوي إلى حد بعيد على ما تعنيه لفظة أو مفهوم المثقف بالتعبير الفرنسي، والذي درج منذ مقالة إميل زولا (إني أتهم) بشأن قضية دريفوس الشهيرة.
أما النقلة النوعية، في الصحافة اللبنانية والعربية، في الرؤية إلى القارئ وفي الموقف منه والتعامل معه، وبكونها من الآفاق الجديدة التي تفتحها الصحافة أمام المشروع النهضوي التنويري بتطوره وتجدده، فأحسب أنها قد أخذت تتحقق مع صحيفة غسان تويني وكتابته. وهذا منذ تمسكه، وحتى هذه اللحظة، بالمدلول الإغريقي لكلمة فيها؛ فاللوغوس هي اللفظة والعقل والمعرفة، في آن؛ فاحترامها بحريتها هو في الوقت نفسه احترام لكاتبها، ولقارئها بالأخص.
هنا يتكامل الصحافي مع الكاتب والمفكر والفيلسوف والأكاديمي والسياسي، في الرؤية إلى الحدث وفي النفاذ إلى ما وراء الحدث، في سعي إلى شمولية النظرة. أما الغاية الدفينة تحت ذلك كله فليست غير التمكن من إيقاظ الوعي النقدي أو مخاطبته عند القارئ؛ فلا يعود بالمستغرب أن تنطوي قراءتك لغسان تويني على استدراجك للتجادل والحوار معه. إن في هذا احتراماً لعقل، لعقل الكاتب بالطبع، إنما ولعقل القارئ بخاصة. وفي الأصل، هل من كتابة بلا قارئ؟ من هنا، تتجنب الكتابة بقلم هذا الصحافي أن تتقدم نصاً منجزاً يحمل فكرة أو أفكاراً جاهزة. الكتابة هذه تفضل أن تبدو قبل أي شيء آخر طريقة في التفكير، أو ربما منهجاً في التفكير، ما دام محركها البحث في الحقيقة؛ ولذلك ترى المقال أو النص حمال أسئلة وتدقيقات في المفاهيم، بأكثر مما يطرح من أجوبة يصعب أن ترد أصلاً إلا بصيغة الانفتاح على أسئلة جديدة توالدها.. وهكذا دواليك...
لعل هذا الانفتاح أن يرد في جانب أساسي منه إلى المنهج الديالكتيكي الذي فضّل غسان تعريبه بالجدلي أحياناً وفي البداية، والذي يراه هو، في أبسط تحديد له، العلاقة بين الأمر ونقيضه، بين المشكلة والحل الذي سوف ينتج مشكلة جديدة تستدعي حلاً... أما البراغماتية فتبرز، في معالجاته السياسية بخاصة، نسيباً لازماً للديالكتيك.
هذا الانفتاح على حركة الواقع - بل على الواقع في حركته بالأصح - يؤهل الكتابة الصحافية لأن تقارب الحدث بموضوعية، ولأن تحترم القارئ في عقله والمساعدة على تكوين خياراته.
لقد نجح الفكر الليبرالي التنويري النهضوي المتجدد أبداً، والذي لا يني ينضج وينضج بأن في تحويل (نهار) غسان التويني إلى مدرسة؛ لأنه أسهم، حقيقة، بتكوين القارئ على أساس الحس النقدي. لم يكن هاجسه على الإطلاق صنع الحزبي المتحزب على أساس التبشير بإيديولوجية معينة تقدم التأويلات والإجابات الجاهزة سلفاً، بمضامينها الموجهة وشعاراتها الموجهة و(معرفتها) الموجّهة. (النهار) مدرسة، لأنها حرصت على إلا تكون موجهة، رغم كل الإغراء بصنوفه الشتى، وكل الترهيب بأشد فنونه فتكاً؛ لأنها لم تتنازل عن واجبها - قل رسالتها - في احترام حق القارئ في الاختيار، وليس حرمانه من هذا الحق المقدس؛ فأفدح ما يمنى به المواطن في مجتمع حرمانه من هذا الحق، تحت أي ذريعة كانت. إن في ذلك إعطاباً للفرد وللمجتمع في آن.
(النهار) مدرسة لأنها سعت إلى أن تكون، وإلى أن تستمر، جريدة ديمقراطية. وهذا لا يتجلى فقط، ولا أساساً فقط، في التنوع الذي يستشعره القارئ من خلال تعدد المقاربات المختلفة والمتفارقة والمتمايزة في صفحاتها وكتّابها. ف (النهار) نهارات بهذا المعنى. على حد ملاحظة الرئيس الراحل شارل حلو. ديمقراطية (النهار) تتجلى أساساً في سعيها الدائم للمساعدة على أن يكون القارئ ديمقراطياً؛ فالديمقراطية في واحدٍ أساسي من تكاوينها وتجلياتها وفعلها هي ثقافة الديمقراطية. ثقافة الديمقراطية هذه، والتي تعمل (النهار) بوحيها وعلى تعميمها، هي التي تصب، بالنهاية، في ما لا يني يردده غسان التويني: لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين. أحد أبرز وجوه رسالة (النهار)، أن يكثر الديمقراطيون.
الشاب الذي قطع دراسته الجامعية وعاد إلى لبنان، لم يلبث أن يلاحظ منذ أكثر من نصف قرن، بعيد تسلمه (النهار)، محرراً ورئيس تحرير: (في مملكة الدانمارك شيء عفن). لكنه عندنا كانت الجمهورية في أول طلوعها. لذلك ما كان لصرخة هاملت أن تسمع. ليس فقط لانعدام المسرح آنذاك، بل لأسباب مجتمعية أكثر تراجيدية. فوجد الشاب نفسه مدفوعاً لأن تقترن تجربته الصحافية المبكرة بخوض المعترك على المسرح السياسي المباشر. وصار نائباً ومشاركاً فاعلاً في (الثورة البيضاء)، الانتفاضة الديمقراطية اللبنانية الأولى في عهد الجمهورية ضد العفن والفساد اللذين بكرا في اكتنافها. انتفاضة بيضاء لا تكسير فيها، ولا شغب، ولا عنف مسلح، ولا دماء، بعكس الانقلابات العسكرية التي تذرع القائمون بها، في بلدان عربية أخرى، بدعوى الفساد والعفن لبناء وإدامة الأنظمة الديكتاتورية والاستبداد. ذلك الشاب ذاته، وبعد 55 عاماً من التمرس بالصحافة، وبالسياسة، ووزيراً دون أن يكون نائباً، ودبلوماسياً، وبعد مساهمات نضالية كفاحية وفكرية عميقة في التشريح المأساوي لعصرنا اللبناني والعربي، لاسيما ذاك الذي انكتب في حقبة منه (حروب الآخرين على أرضنا) سوف يجد هذا الشاب نفسه مدفوعاً إلى أن يرث مقعد ابنه الشهيد جبران في المجلس النيابي، وفي انتفاضة 14 آذار 2005، مساهماً في تحصين الوطن والاستقلال بالكلمة.
فهل الأمر دوران في حلقة مفرغة طيلة أكثر من نصف قرن؟
قطعاً لا. ف (لبنان (الذي) حوّل حريته إلى خيرات له ولسواه - كما يقول غسان تويني - فلم يحل له يوما أن ينعم بخيرها وحده، بل جعلها في متناول إخوانه العرب: كان برلمان العالم العربي ومنبره الأعلى. ولعل ذلك من أسباب النقمة عليه والحروب...(1991).
هذا اللبنان، كان عليه أن ينهض من تلك الحروب بتداعياتها المدمرة التي كادت أن تزهق روحه. المدخل الأول لهذا النهوض ليس غير الحرية ذاتها التي كانت هدف الرماية. أما مهمة تنقية الديمقراطية فيه من الشوائب فلن يكون إلا بالمزيد من الديمقراطية. وعندما تكون الحرية في لبنان معتلة أو مطاردة، يكون بلداً من غير روح. في مثل هذه الحال الشاذة، اعتبرت (النهار) أن مسؤوليتها الإعلامية والأخلاقية والفكرية والسياسية قائمة في أن تختار الجهر بالرأي، ولو كان ثمنه في زمن التهويل زوال الحضور السياسي على الأقل، أن لم يكن الزوال الجسدي كذلك.
بل لقد اعتبرت (النهار) أن مسؤوليتها المعرفية، في سياق التزامها خدمة الحقيقة، إنما تستدعي الحرية كذلك. لا لمجرد الجهر بالرأي، بل لحاجة المعرفة ذاتها إلى الحرية؛ إذ لا معرفة بلا حرية.
فبنظر الصحافي المفكر غسان تويني، ثمة (توأمة متلاصقة ديالكتيكياً بين المعرفة والحرية) أو لم يخطوا متلازمين معاً في عصر النهضة الشهيرة إبان الكفاح السياسي والتعليمي المعرفي للخلاص من الاستبداد العثماني؟
دعونا نحيي، شهادة لهذا الغسان، استشراقاً استبق، في صحيفته وكتاباته وفكره، عشرين عاماً أو أكثر من العصف المذهل جداً في سنواته الأخيرة بخاصة، بدءًا من سقوط جدار برلين. إنما دعونا نحترم، ونكبر، هذا القلم الذي ظل مرفوعاً، ليس شاهداً فحسب، بل ممارساً كذلك الوعي النقدي لدى اللبناني ليكون قارئاً مواطناً فيبطل التعامل معه واحداً من رعية بلهاء من قبل المتسلطين عليه. وذلك بتمكنهم، على أساس الزبائنية أو ما أسماه غسان منذ القدم (العقد الجهنمي) أو على أساس غسل الأدمغة الإعلامي، من قتل العقل في المواطنين أو إقالته بدل إيقاظه.
الأساس في مشروع هذا الرجل النهضوي سخريته العميقة من سياسات أو أنظمة أو مناهج تفكير سيطويها التاريخ حكماً، ما دامت لا تحفل بشوق الإنسان والأوطان للعدالة والحرية؛ فالأصل عنده ليس أن يكثر الكلام والجعجعة على المستقبل ترسيمات وصوراً مغناة جاهزة، بل أن يفسح له في المجال فعلاً. هنا المعركة الحقيقية. هنا جوهر الحلم. هنا يصنع التاريخ الذي حذار أن يأخذنا ونحن غافلون.
غسان التويني لم يكن متنبئاً. إنه، بعد، الصحافي بامتياز، القارئ المتفكر الذي يقارب السياسة بالفكر والثقافة. وهو الدعوة الدائمة إلى جبه المأساة التي تصادر وعي المواطن بالمحو وبإعمال النسيان، وبالقتل كذلك. إنه المسيحي المؤمن أيضاً وأساساً. وأروع تعبير عن هذا الإيمان قوله عن قتلة جبران، لحظة وداع ابنه بعد الصلاة على جثمانه (إنه لا يحقد عليهم، إنه يغفر لهم). أفلا يلزم الكثير من الشجاعة لمثل هذا الإيمان بالله تعالى؟
غسان تويني من هذا (النهار) المتجدد أبداً، والذي تأبى رسم حدود له يتقولب فيها المستقبل مسبقاً. وينظم تدخل الإنسان في تفاعله مع الأحداث بصورة مبرمجة مسبقة.
أو ليس هذا المستقبل تناقضات لم تجد حلولها بعد؟ فلا قولبته واردة، ولا الاستقالة منه ممكنة أصلاً.
كفاه، هذا الصحافي إثباتاً، وبالبراهين التي من اللحم الحي أيضاً، على أن الديمقراطية في هذا العالم الخاطي أولى خطواته في الألفية الثالثة، لن يكون بالمقدور قتلها، وإن أجبرت أحياناً على (التضاؤل حتى تصبح دمعة في العين) - على حد تعبير (نهاري) مرموق هو الراحل الكبير ميشال أبو جودة.
من أولى فضائل (النهار) أنها قدمت الديمقراطية عيناً تقاوم المخرز.
أما عن الكلمة (اللوغوس) التي هي الأبقى برأيه، رغم كل قدرات التكنولوجيا الصورية الهائلة، فالمسألة فيما خص الكتابة ليست تقنية. إنها، الكلمة المسألة المحاورة، يبدعها الكاتب سلاحاً جديداً مبتكراً في الجدال الجاري بين الإنسان ومستقبله، (بين الإنسان وسره) على حد تعبير ناديا تويني. أستأذنه هنا لأستذكر من شعرها:
Pour qui compulse I'amour comme un missel
et qui dans la solitude de ses veines
trouve un pays
celui-la est lie aux saisons
complice d'un reve
communement appele
Vie
لمن يتصفح الحب ككتاب
وفي عزلة شرايينه
يجد بلاداً
هو ذاك مكبل بالفصول
يُسمى بحسب العادة الشائعة
حياة
وهكذا، فمع ناديا بداية جديدة للكلام عن حلم غسان تويني الذي لم ينطفئ في كل حياته، أمد الله بعمره وبثمار عطاءاته البالغة التنوع والغنى.