علاقتي بالأستاذ غسان تويني تعود إلى ما قبل ولادتي فحين تزوج والديّ في القاهرة عام 1945م، لم يكن بين الحضور إلا صديقين اثنين قادمين من لبنان، أحدهما الأستاذ غسان، وكان لم يبلغ بعد سنّ العشرين.
خلال طفولتي وصباي، كان اسمه دائماً على ألسنة أفراد عائلتي، يتابعون مقالاته ونشاطاته، وما زلت أذكر تلك السنة الانتخابية في 1957م، وكنت آنذاك في الثامنة من العمر، حين سمعت أعمامي يهمسون في وجع (سقط غسان)، وكان مرشحاً لمقعد نيابي في بيروت، ذلك المقعد نفسخ الذي تقبّله بالتزكية في ظروف مأساوية بعد نصف قرن.
في مطلع الستينات أسسّ والدي صحيفة يومية لم تعمّر طويلاً -إذا كانت موهبته الكتابة لا الإدارة- فبات، نظرياً على الأقل، منافساً ل (النهار) لكنّي لم أشعر يوماًَ بأن العلاقة بين والدي وغسان علاقة تنافس أو تنافر أو سجال، بل كانت دوماً على منتصف الطريق بين الزمالة والأخوّة، إلى درجة أن غسان لعب دور الوسيط بين عدد من أفراد عائلتنا حين حصل بينهم بعض التباعد.
كان الأستاذ غسان طوال طفولتي وصباي، كأخ أصغر لوالدي الذي كان يمازحه كلما التقيا لأنه كان أستاذه في الجامعة الأمريكية لفترة قصيرة، وكثيراً ما ردد الأستاذ غسان وما زال يردد، في حضوري كما في غيابي، أن أفضل ما تلقاه في العلم كان على يد شارل مالك، ورشدي المعلوف، طيب الله ذكراهما وذكر الأيام الحلوة التي عاشها لبنان في زمنهما، ومما عمق أواصر الصداقة والأخوة أن ذراع غسان الأيمن وكاتمة أسراره سامية الشامي كانت وما زالت صلة الوصل الدائمة بين أسرة (النهار) وأسرة (المعالفة) في أوقات الفرح كما في لحظات الحزن المتكاثرة مع تراكم المآسي الوطنية حيناً والشخصية حيناً، وقد نال منها غسان تويني أكثر من حصتّه بكثير.
من أطرف ذكرياتي مع الأستاذ غسان اتصال هاتفي وصلني منه في نيسان 1971:
- يا أمين، تقول لي سامية أنك ستتزوج قريباً.
- بالفعل ، العرس يوم السبت.
- مبروك ! وهل بدأت تشتغل؟
- لا..
- كيف ذلك. أتتزوج قبل أن تبدأ بالشغل؟ كيف ستؤمن معيشة عائلتك؟
- أنا أبحث عن عمل.
- تبحث عن عمل، ولا تتصل ب (النهار) تعال غداً وسنتكلم.
كدت أطير فرحاً، وبالفعل، ذهبت إلى (النهار) في اليوم التالي.
- تبدأ هنا فور عودتك من شهر العسل، قال لي الأستاذ غسان ببساطة.
- لن يكون هناك شهر عسل سنبقى في بيروت.
- إذاً ، تبدأ العمل يوم الاثنين.
وهكذا كان تزوجت بعد ظهر السبت، وبدأت عملي في (النهار) صباح الاثنين.
لم نتحدث كثيراً يومذاك عن طبيعة عملي في (النهار) لكن الأستاذ غسان روى لي قصة معبرة من أيام صباه.
- عندما أردت أن أبدأ العمل مع والدي في (النهار) كتبت مقالاً ونقحته ونسخته مراراً على صفحات ناصعة، ثم حملته إلى والدي ليقرأه، أمسك به وسألني: (ما هذا؟) قلت: (مقال، أنا كتبته) هزّ برأسه، ثم رمى المقال في سلة المهملات دون أن يلقي إليه نظرة واحدة، ثم قال لي: (أنزل إلى المطبعة، واسأل المعلم فؤاد إذا كان يحتاج إليك في شيء).
المعنى كان بالطبع أن الذي يبدأ عمله في مؤسسة يجب أن يكون مستعداً للقيام بأي عمل يطلب منه، تحدّث الأستاذ غسان عن نفسه من باب اللباقة، لكن المعنى الذي كان في ذهنه كان كذلك في ذهني، إذ أمضيت طفولتي في المطابع أرافق والدي كلما سمح لي بذلك، أجلس إلى جانبه في مكتبه حتى يكمل مقاله، ثم أتوجه معه إلى المطبعة، وكانت مطابع تلك الأيام غير مطابع اليوم، تفوح رائحة الرصاص والحبر والصور تحفر على الزنكوغراف، والعمال المهرة يقرؤون النصوص من آخر الكلمة إلى أولها، ويبدلون الحرف باليد، كل ذلك كان جزءاً من حياتي اليومية، ومن لذاتي الدائمة، ولم أتصوّر لحظة أن مهنتي يمكن أن تكون بعيدة عن عالم الحبر والورق والكتابة.
ودخلت إلى (النهار) انتماءً لا توظفاً، إذ كانت الصحيفة (أسرة) قبل أن تكون (شركة) تلك كانت ذهنية لبنان ما قبل الحرب، أو لنقل بعض لبنان على الأقل لبنان الدافئ الحميم الذي لم أتصوّر آنذاك أنه على شفير هاوية.
وبقيت في (النهار) إلى أن حصل ما حصل.
دبّت الحرب، وانقسمت بيروت أحياء وطوائف، فسافرت مع قوافل المسافرين، تاركاً بيروت، وفي بناية (النهار) بالذات، الذكريات القريبة البعيدة، الحية الغابرة، ذكريات أيام الصبا، أيام بيروت الحلوة التي أحلم كل ليلة بأنها ستعود، أيام لبنان الظاهرة، لبنان النموذج، لبنان المثال، حين كان الشرق يتوق إلى مراتعه، والغرب يتوق إلى لذّة العيش فيه، حين لم تكن (اللبننة) تهديداً بالتمزّق الطائفي والقتل على الهوية.
نعم، كان لبنان نموذجاً لأفضل ما في الشرق ولأفضل ما في الغرب، وكانت (نهار) غسان تويني نموذجاً لأفضل ما في لبنان، صحافة حديثة، مستقلة، جريئة، مبتكرة، تؤمن بالحرية والصدق والمسؤولية، مؤسسة في وطن تلاقت فيه المؤسسات، بقيت تسير على طريقها، بين الألغام والمفخخات تسير، وفي كل مفترق يسقط لها شهيد، والقبطان أبداً في موقعه، الشهيد المنتصب الشامخ المؤمن الحزين، أبداً في موقعه، على كتفيه هموم لبنان، وفي نظراته المتقدّة لمعات الأمل.