غسان تويني رجل الهويات المتصالحة، في زمن يتهدده اختزال الناس إلى هوية واحدة. وهو رجل المسالك المتعددة تفتحها أدواره المتنوعة، التي اختارها أو التي اختارته، ومعها اللغات والمقاربات. تتعدد مسالكه في بلد ينزع الكثيرون فيه، من السياسيين والمفكرين والمتحزبين لهم، إلى بناء الأسوار حول الجماعات، على اختلافها، الموروثة منها والمتخيلة، وإلى التعامل مع الأفراد وكأنهم مجرد جزءٍ من جمهور أو كتلة أو (حصة). وتجتمع أدوار غسان تويني ولغاته في ائتلاف مركب يتجدد كل يوم وفي كل حالة. كما تلتقي هوياته، اللبنانية والعربية والمسيحية الشرقية وإنسانية المشارق والمغارب، في وحدة قصدٍ تأخذه إلى المصيريات، رغم انشغاله بحرفيات الصحافة والمتابعة الصبورة لتفاصيل الحياة السياسية، هنا وهناك وهنالك.
ويختبر غسان تويني، في مأساة عميقة الهموم، جدلية المستطاع والمتعذر فيضع النسبية في نصابها ويخشى على السياسة من الانحدار إلى لهو الخناقة الخطير ولعبها وكأنها الحرب ولو بطريقة أخرى. ويزدري بكل ما ينحط بالسياسة إلى أسفل حتى العبث بالأخلاق، وهو عبث بالسياسة نفسها يتهدد الحياة المدنية والديمقراطية، وفي حدود ما نعرفه منها. وكما هو عبث يحجب الخير العام وراء المصالح الفئوية. ولعّل الإصرار عند تويني في العودة تكراراً إلى الدستور، وهذا مثل من كثرة، ليس مجرد استعانة بنصه حكماً في الخلافات، بل هو استدعاء للقيم التي يضمرها وهي شرط السياسة وصنو معناها. ولا يأتي هذا الاستدعاء عنده بصيغة التوبيخ أو التهكم إلا قليلاً بل بصورة المغالبة للخيبة، ذلك أنه في جدلية أفكاره، من صفحات النهار إلى منابر الأمم، سليل الحوارات الإغريقية التي افتتن بها حين كان طالباً وأبى مذّّاك أن يفارق عشرتها الطيبة.
غسان تويني صاحب نهج يؤلف ولا يكفيه أن يجمع ويوفق، لأنه رجل ثقافة، لا يرضاها زينة أو إضافة كمالية للحياة العامة. وهو يؤلف أيضاً بين ألوان الكتابة التي لا تخفي ميله إلى توسل مفاهيم الفلسفة وانجذابه إلى الشعر، حديث القلب. ويعلو عنده شأن العمل الثقافي منذ أن أرهق التاريخ العقائد وبعض القناعات المنبثقة عنها. وقبل ذلك كله وبعده، يكتب غسان تويني من جرح، ولو أنه كثيراً ما يغطي جرحه ليكتب.
* وزير الثقافة اللبناني - وزير الخارجية بالوكالة