سيرة ناديا تويني هي حكاية قصائدها، إلهامها وصراعها مع الأيام التي عاشتها إبداعا لافتا ولدت 8 تموز 1935م، من المدينة الشوفية، بعقلين، حملت ناديا إيمانها بالأرض والعشيرة والتراث، وعشقها للأشجار والأزهار، وشغفها برموز الجبل وما منه وما عليه. كذلك تعلقها اللامتناهي بامرأة الجبل الممثلة بجدتها (ستي هند)، والدة محمد علي.
أما والدتها مارغريت مالاكان، فاقتبست منها جماليات اللغة الفرنسية التي أتقنتها قدر العربية، بل قليلاً أكثر، كأداة تعبير شعرية ظلت دفينة في (لا وعيها) إلى أن فجّرت ذلك فاجعة وفاة ابنتها الطفلة نايلة، فكان ديوانها الأول: (النصوص الشقراء)... نشرته في بيروت 1963م مزيّناً برسومٍ منها، ثم ندمت على (التسرع)!
تزوّجت من غسّان تويني وهي بعد صبية، في أثينا حيث كان والدها سفيراً وكانت هي في صميم تحصيلها الجامعي بالفرنسية واليونانية. وكانت قد تتلمذت في بعقلين أولاً ثم في مدرسة راهبات البيزنسون فمدرسة (اللاييك)، الكلية العلمانية الفرنسية. ولم يتسنّ لها بسبب زواجها 1954م أن تكمل شهادة الحقوق.
منذ 1963م، عاشت صراعها مع المرض الهاجس: هل كان قابعاً فيها فأورثته إلى ابنتها؟ أم هو (مقدر) وحّد الاثنتين؟ وكانت دواوينها الخمسة تُنشر تباعاً، تسجّل تفاعل مأساتها الشخصية ومأساة أرضها: (عصر الزبد) 1965م، (حزيران والكافرات) 1968م، (قصائد من أجل قصة) 1972م الديوان الذي نال جائزة الأكاديمية الفرنسية، (حالم الأرض) 1975م، (لبنان: عشرون قصيدة من أجل حب) 1979م، (محفوظات لحرب في لبنان) 1982م.
ولم يمنعها تقدّم المرض من وضع سيناريو مسرحية غنائية لمهرجانات بعلبك عام 1970م، كتبت نصوصها وقصائدها مع أنسي الحاج وطلال حيدر. كما لم تصرفها صحتها عن إلقاء عدد كبير من المحاضرات والأحاديث بالعربية والفرنسية، وبالإنكليزية خلال وجودها في نيويورك زمن كان غسان سفيراً لدى الأمم المتحدة، فساهمت بكل النشاطات السياسية والثقافية والإعلامية، منها سيناريو و(كلام) فيلم لمارون بغدادي عن الجنوب والاجتياح الإسرائيلي، عُرض في مجلس الأمن بعنوان (حكاية قرية وحرب) 1980م.
بعد وفاتها في حزيران 1983م في بيت مري، صدر لها في باريس ديوان نصوص غير منشورة بعنوان (الأرض الموقوفة) ومنها آخر مجموعة من ست قصائد وضعتنها في الفرنسية والإنكليزية: (تموز من ذاكرتي). ونشرت أكثر من دار فرنسية مختارات من شعرها، منها واحدة (لدى (هاشيت)) مزيّنة بصور من لبنان المدمّر بعد الحرب بعنوان (من نافذتي اللابيت لها).
كما صدر لها وعنها، في (دار النهار) عدد من النصوص (بينها مذكرات ومحاضرات ومقالات متفرقة) والكتب والترجمات والدراسات... ولا يزال!
لدى زيارتنا بيت نادية تويني في بيت مري أتحفنا حبيبها ورفيق عمرها غسان برثاء الشاعر الكبير نزار قباني لها في الذكرى الأربعين لرحيلها وميزة هذا الرثاء أنه كان مكتوبا بخط نزار الواضح والجميل وكان غسان قد عثر عليه وهو يبحث في مكتبته القديمة التي نذرها ومنزله إلى جامعة البلمند اللبنانية... وفيما يلي نفحات من رثاء الشاعر للشاعرة:
من أصعب المهمات أن يكتب الإنسان تاريخ فراشة.
فتاريخ الفراشات يكون عادة مكتوباً على أجنحتها بالأخضر، والأزرق، والبرتقالي.
ناديا تويني، هي فراشة منقوشة بالشعر من رأسها حتى قدميها.
وأنا، طول عمري، أحسب ألف حساب قبل أن ألمس جناحي فراشة، حتى لا يهرهر غبار القمر على أصابعي.
حين التقيت ناديا تويني لأول مرة، تصورت أنها طالعة من كتاب.
لم أصدق عيني.
فالنساء عادةً يطلعن من سوق الصاغة. أو من معارض الأزياء. أو من صالونات التجميل.
يطلعن من شارع الحمراء أو من (الفيا فينيتو) أو من (الفوبور سانت أونوريه)...
ولكنهن لا يطلعن إلا نادراً من غابة الكتب.
ناديا تويني، حين شاهدتها، كانت جميلة ككتاب.
ومرصعة بالحروف والأزهار كجدار كنيسة بيزنطية.
ومكتظة بالعطايا كبيدر قمح.
وكانت تتكحل مرة بحزنها الخصوصي...
ومرة بحبر المطابع
ومرة بأحزان لبنان.
صعب على شاعر أن يقترب من شعر ناديا تويني.
فهي قمر شعري.
وكانت أمي توصيني أن لا أقرأ على ضوء القمر، حتى لا أغرق في هذه المحبرة الملأى بالحليب والعشق، والمشغولة بأسلاك الفضة.
الاقتراب من ناديا تويني صعب.
كالاقتراب من حمامة مرسومة على سقف كنيسة.
كالاقتراب من ميعاد غرام.
كالاقتراب من حورية البحر...
دعتني منذ سنوات إلى بيتها في بيت مري...
دعاني القمر.
وحين انفتح الباب، واشتعلت ابتسامتها كحقل من أزهار القطن، تذكرت نصيحة أمي. وخفت أن أقوم بأية حركة تجرح زجاج القمر...
يا رب. كيف تستطيع امرأة أن تنعجن بالشعر، وتنزرع فيه، كما ينزرع الحلق الطويل في آذان الأندلسيات؟
كيف يختلط دم القصيدة بدم ناديا تويني، حتى إذا غرزت دبوساً في جلدها لم تعرف أي دم سال، دم القصيدة، أم دم ناديا تويني...
كيف تخرج ناديا من كتبها لتستقبل الناس، وتلاطفهم، وتسامرهم، ثم تعود في آخر الليل لتنام في أجفان الحروف.
كيف يتطابق الصوت والصورة في هذا الكيان الضوئي، فلا تجد خللاً أو تنافراً بين الصوت وبين الشفتين، بين الورقة وبين الأصابع، بين البجعة وبين ماء البحيرة.
إن مشكلة التطابق بين الشاعر وورقة الكتابة كانت دائماً تشغل بالي.
ففي حين تبدو ناديا تويني طبيعية كسنبلة القمح، وتتشابه كالليرة الذهبية من وجهيها، نجد بعض الشعراء العرب لا علاقة لهم إطلاقاً بشعرهم، فهم على ورقة الكتابة بمنتهى الشفافية والجمال، فإذا خرجوا من الورقة تحولوا إلى أبالسة وشياطين.
كانت جميلة كلبنان، صافية كينابيعه، نقية كثلجه، عالية كأمواجه، وطموحة كمراكبه، ومغسولة بالوجع كأغانيه.
كانت تشبه لبنان كثيراً. لذلك عاشا معاً وانفجرا معاً.
لم يكن معقولاً أن يموت لبنان وتبقى ناديا تويني، ولا كان معقولاً أن يتوقف قلب ناديا تويني عن النبض، ولا يتوقف قلب لبنان.
هناك كائنات ترتبط دورتها الدموية بالدورة الدموية لكائنات أخرى كغروب الشمس مثلاً . وهناك كائنات يرتبط جهازها العصبي بالجهاز العصبي لعريشة العنب، أو شجرة زعرور، أو محارة على شاطئ البحر .