قبل أن يستقر بي المقام أسبوعياً في رحاب (الشرق الأوسط) جريدة العرب الدولية كواحد من المشاركين أسبوعياً في صفحات (الرأي) ويومياً في رحاب جريدة (اللواء) اللبنانية الوقورة والملتزمة وطنياً وقومياً كواحد من الزملاء المعلقين والكتَّاب كانت محنة الحرب اللبنانية التي أشعلتها شرارة رماها على لبنان الحديقة الجميلة حفنة من الأشرار يوم الأحد في 13 إبريل - نيسان 1975 أوجبت عليَّ ترك الوطن حزيناً على ما بدأ يحدث فيه وأترك إلى جانب الوطن جريدة (النهار) التي تبادلت معها العطاء على مدى تسع عشرة سنة بكل أمانة وحيوية ومبدئية ويستقر بي المقام في باريس ثم في لندن ثم أعود بعد عقدين إلى الوطن المثخن بقلة الوفاء له من جانب بعض أهل السياسة والحزبية والتعصب، وقد رفدتُ المكتبة السياسية بخمسة عشر كتاباً وعملاً موسوعياً وبضع دراسات تعالج القضايا الساخنة في التاريخ العربي المعاصر، مستحضراً في معالجتي سنوات الاهتمام الميداني من (النهار) بالشؤون العربية وما تلا هذه المرحلة خلال سنتين انتقاليتين أمضيتهما في العاصمة الفرنسية واحداً من مثلث رئاسة تحرير (النهار العربي والدولي) ثم واحداً من كوكبة الكتَّاب العرب الذين شق بهم الزميل الراحل نبيل خوري طريق مجلة (المستقبل) في اتجاه العالم العربي.
كما شمل الاستحضار اهتماماً مشابهاً أكثر اتساعاً فرضته مسؤولياتي كناشر في لندن لمجلة (التضامن) الأسبوعية السياسية بالتعاون مع منارتين بريطانيتين هما (جامعة كمبردج) وجريدة (الفايننشال تايمس)، وهي تجربة نشر كثيرة التميز كان من شأنها أن تتحول إلى مؤسسة لولا أن الغزوة الصدّامية للكويت أحدثت هزة في الأمتين العربية والإسلامية بات حديث التضامن العربي بسببها غير مستحب.
ولكيلا أمارس غواية تحميل القلم ما لا ينسجم مع روحية المجلة التي أردتها منذ اللحظة الأولى اسماً على مسمّى، ويتلخص هدفها وموجبات إصدارها بالاسم وما يمثله بالنسبة إلى تآلف القلوب، فإنني ارتأيت الإبقاء على مفاهيمي مصانة وعلاقاتي المتوازنة في منأى عن الاهتزاز، واعتبرتُ مشروع النشر في لندن لمجلة أسبوعية سياسية اقتصادية تحمل شعار (مجلة العرب من المحيط إلى الخليج) وترى أن الازدهار بالاستقرار، تجربة شاء أمر الله أن تنصرف بكرامة بدل أن تتواصل بإهانة.
وهنا تبدأ المرحلة الجديدة المشار إليها في مطلع هذه المقالة أي الكتابة أسبوعياً في (الشرق الأوسط) بلفتة من الأمير سلمان بن عبدالعزيز أوضحها لي الأمير أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز الحاضر في البال دائماً حتى وهو في رحاب رب العالمين، والكتابة يومياً في (اللواء) باستقبال في غاية الود الكريم من جانب السلامين عميد الجريدة عبدالغني ورئيس تحريرها صلاح.
وعندما أشير إلى سنوات الاهتمام الميداني في (النهار) أرى أنه لا بد من رد أحد الفضلين إلى أصحابهما. أما الفضل الأول فهو لرب العالمين الذي يساعد المرء في حال أعان نفسه وثابر ولم يتبرم ويتحمّل المسؤولية وشظف التعامل مع أنظمة تضيق صدو إزاء ملاحظة أو معلومة أو تحليل، وارتضى من أجل بناء نفسه على الأساس الصحيح إعلاء شأن الجريدة التي يعمل فيها أن يخاطر أحياناً بحياته من أجل تغطية حدث وهو كثيراً ما جرى لي في جنوب السودان، الذي أمضيت أسبوعين في مديرياته الثلاث (الاستوائية) و(ملكال) و(بحر الغزال) منتصف الستينيات من أجل أن نروي لقراء (النهار) حقائق الوضع في تلك المنطقة التي أدركتُ شخصياً حرص الرئيس جمال عبدالناصر على إرسال صاغهِ صلاح سالم إلى الجنوبيين بعدما تجولت في ربوعها بين أدغال يختبئ فيها مقاتلون يتبعون قائد التمرد الأول جوزيف لاقو الذي سبق في التمرد القائد الثاني الدكتور جون قرنق الذي طوَّر المواجهة ووسَّع مساحة الأهداف بحيث بات يعتبر واجبه هو (تحرير السودان) جنوباً وشمالاً شرقاً وغرباً وعلى ضفاف أنهار وروافد تسبح فيها التماسيح الصغيرة التي كثيراً ما قضمت أذرع وسيقان بعض الجنوبيين، وفي حدائق استراحات مسوَّرة موروثة من أيام الاستعمار البريطاني تحط على أسقفها نسور لم تبلغ مخالبها ومناقيرها بعد مرحلة الإيذاء حتى لتبدو بالنسبة إلى الجنوبي كما لو أنها بلابل أليفة يرتاح عند النظر إليها حتى وهي تطلق صرخات نسر جائع يأمل في العثور على طريدة.
أما النصف الثاني من الفضل فيتوزع بين غسان تويني الذي ارتأى تعزيز تعريب جريدته التي ورثها عن والده اليعربي جبران الأول فمحضني وزملاء آخرون تشجيعاً كان بدأه بي بعدما لاحظ رونق القبول من جانب جمهور (النهار) بتغطيتي للتطورات المصرية والسودانية، وكيف أن الجريدة التي كانت مرتضية أن تكون لبنانية الاهتمام بدأت تكتسب صفة يجوز تسميتها (جريدة العرب في لبنان).
وأستحضر وأنا أروي بعض ما في الذاكرة الغنية بأحداث تلك المرحلة الغنية هي الأخرى كيف أن غسان تويني سألني صباح يوم الثلاثاء 25 يناير 1972 عن الجديد الذي سوف أكتبه للقراء عن حركة الغضب الطالبية التي كانت قد بدأت في القاهرة ضد الرئيس أنور السادات، وكان جوابي (أنا فؤاد مطر المصري) على نحو الصفة التي أطلقوها عليَّ لكثرة اهتمامي بالشؤون المصرية: أن الأمور سوف تتفاعل ومن الأفضل أن نغطيها ميدانياً. ورد بما معناه: هل هذا ما سنقرأ في عدد الأربعاء (اليوم التالي)؟ ولا أدري إذا ما كان يقصد أن عليَّ أن أسافر إلى القاهرة أو أكتب وأنا وراء مكتبي وبصيغة الاستنتاج. لكن الذي فعلته أنني حجزت على الطائرة المغادرة ظهراً إلى القاهرة وأمضيت خمس ساعات في العاصمة المصرية أستطلع وأسأل وأراقب تحركات الطلاب وأُدون هتافاتهم، استمع إلى وجهات نظر زملاء في جريدة (الأهرام) التي أمست بوابتي الآمنة لمعرفة أحوال مصر، في مدلول هذا التحرك الغاضب وأي نتائج يمكن أن يحققها مع نظام يحاول جاهداً إزالة آثار عدوان الخامس من يونيو 1967 وينتظر الفرصة المناسبة من دون أن يتراخى في الاستعداد لهذه الفرصة، وهو استعداد لمسه غسان تويني الذي رأى مكابدتي لتغطية الأحداث والتطورات المصرية عندما أمضينا معاً يوماً كاملاً في الخطوط الأمامية، وعشنا ونحن في أحد الخنادق ساعتين من القصف المتبادل بين الإسرائيليين الذين يحتلون سيناء حتى ضفاف قناة السويس والأبطال المصريين الرابضين كالأسود على الضفة الأخرى يواجهون بصبر أيوب التداعيات النفسية الناشئة عن الهزيمة وينتظرون بفارغ الصبر نفسه لحظة الثأر وهي التي حدثت بالعبور التاريخي لقناة السويس وتلقين الإسرائيليين درساً موجعاً، وهم الذين كانوا من خلال خط برليف يظنون أن الهمم المصرية تراخت إلى غير رجعة ثم تبين لهم أن هذه الهمم ثابتة كالأطواد عندما يقيّض الله لها قيادة واعية مثل المشير أحمد إسماعيل الذي كان إلى جانب السيد محمود رياض الأمين العام للجامعة العربية والدكتور حسن صبري الخولي المستشار المخضرم في العهدين الناصري والساداتي هم خط الإطاحة الأول والمستنير لي بالوضع المصري ويزيد في قبولهم لي أنني كنت ألتزم مبدأ (المجلس بالأمانات) فلا أفرط بهذه العلاقة من أجل استعجال الشهرة؛ ولذا فإن هذه الكوكبة من أهل الخبرة والمعرفة والمسؤولية وآخرين غيرهم جعلوا (المصري) فؤاد مطر (مصرياً) بمعنى الفهم المسؤول والرصين لأحوال (أم الدنيا). كما أن مُثلاء لهم في السودان من بينهم المحاجبة الثلاثة محمد أحمد محجوب ومحمد محجوب سليمان وعبد الخالق محجوب والشريف حسن الهندي وعمر الحاج موسى وآخرون في مرحلة لاحقة من بينهم سيد أحمد البخيت جعلوا (السوداني) فؤاد مطر بالمعنى (المصري) الذي أشرت إليه سودانياً وهو توصيف يرتاح المرء إليه ويبدو في بعض جوانبه مثل شهادة الدكتوراه الفخرية التي تمنحها هذه الجامعة أو تلك.
ولا بد وأنا أتحدث عن المشير أحمد إسماعيل كونه أحد رموز النصف الثاني من الفضل على ما أنجزته ل(النهار) مصرياً في مرحلة (التعريب) التي عززها غسان تويني أن أستحضر كيف روى لي في لقاءين معه في مكتبه في وزارة الدفاع في التاسعة والنصف ليلة الخميس 3 أكتوبر 1974، ولمناسبة الذكرى الأولى للعبور التاريخي، وذلك بحضور مساعده اللواء سعد مأمون، وقائع خطة إعادة بناء الجيش المصري بعد هزيمة 1967 وبعد عودتي إلى بيروت كان غسان تويني وأنا معه في غاية السعادة لأن مراسلي الصحف والوكالات الأجنبية التي كانت تعتبر تغطية (النهار) للتطورات المصرية مصدراً أساسياً لها رأت في الوقائع التي أوردها المشير إسماعيل في الحديث الذي نشرته (النهار) على حلقتين أنها بالغة الأهمية وخصوصاً ما يتعلق بقرار الحرب الذي كان يعرفه ثلاثة فقط هم الرئيسان أنور السادات وحافظ الأسد والمشير إسماعيل، وبغرفة العمليات التي افترضنا أنها هي تلك التي عممت وزارة الدفاع صورة الرئيس السادات مجتمعاً فيها مع كبار الضباط، ثم يوضح المشير إسماعيل أنها لم تكن هي الغرفة الأساسية لأن هذه لا تُفتح أمام أحد، وأن التي تمّ توزيع صورة عنها كانت واحدة من مجموعة غرف عمليات. أما الذي قاله وأرضى بعض الشيء مشاعر القادة السوفيات الذين أساء السادات إليهم بطرده الخبراء العاملين في الجيش المصري قبل أن تبدأ الحرب فكان على النحو الآتي: (علينا ألّا نبخس الاتحاد السوفياتي حقه. إن الاتحاد السوفياتي ساعدنا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ونحن قاتلنا بالسلاح السوفياتي وانتصرنا به بينما حارب عدونا بالسلاح الأمريكي ولم ينتصر...).
وأتذكر بعد نشر المقابلتين في (النهار) كيف أن السفارة السوفياتية في بيروت سعت بإلحاح من أجل أن تعرف مني المزيد من كلام المشير إسماعيل في هذا الشأن لكنني عملاً بمبدأ (المجالس بالأمانات) لم أقل للدبلوماسي السوفياتي الذي كان مثل دبلوماسيين أجانب كثيرين يطرقون باب (النهار) للاستزادة من معلومات تنشرها كوكبة من (معرِّبي) الجريدة غير الذي نشرناه، مع ملاحظة أن ما سمعته من الصديق المشير - رحمة الله عليه - و(للعلم والخبر) كان أكثر بكثير كماً وأهمية، ولم أقله بعد ذلك إلا لعميد خطة رفع منسوب (التعريب) غسان تويني الذي أخذ يُعامل في مصر بحكم الانسجام السياسي بينه وبين المرحلة الساداتية باهتمام غير مسبوق في الحقبة الناصرية. أما التعامل المصري معي فبقي على الوتيرة نفسها يراوح بين الاحترام ومراقبة ما أبعث من موضوعات ومقالات للجريدة في بيروت خلال مهمات أقوم بها في القاهرة، وإن مني بانتكاسة أثارت بالغ الغضب في نفس الرئيس السادات لأنني كشفت موعداً لبدء المعركة وتسبب الكشف الذي ندمت عليه لاحقاً في إلغاء خطط عسكرية. وبعدما جمعنا، غسان تويني وأنا، لقاء في استراحة الرئيس السادات في الإسكندرية انحسرت قليلاً نسبة غضب الرئيس الذي أسمعني قاسي الكلام لكن تدابير جامعة المخابرات والمباحث بقيت لبضعة أشهر على قساوتها التي كان عليّ تحملها من أجل إلا ينتكس مشروع (التعريب) مع ملاحظة أن الزملاء المشاركين في هذا المشروع وهم رياض نجيب الريس وعلي هاشم ووفيق رمضان أبلوا في ساحاتهم الخليجية والأردنية والسورية واليمنية أحسن البلاء.
كانت مرحلة (التعريب) لجريدة (النهار) التي أعطيت فيها الكثير مضيئة بكل المقاييس. وعلى رغم محاولات إطفاء للضوء اليعربي في ما يخصني إلا أنني واصلت اقتحام الأسوار من خلال وضع مؤلفات عن القضايا العربية التي أوكل إلى غسان تويني أمر الاهتمام بالمفاصل الأساسية منها وأعني مصر الناصرية شاغلة الناس ثم مصر الساداتية شاغلة البال، وذلك بعدما بدأت (نهاره) موضع اهتمام أهل القرار العربي وكذلك النخبة المثقفة والأوساط الإعلامية والأجنبية التي تعرف من خلال النهار أموراً كانت غير ملمة بها أو أن ملاحظتها لها ليست بالدقة التي تنطوي على الثقة. وكنت في موضوع التأليف أعالج مخزون معلومات وأوراق ووثائق لا أنشرها في (النهار) كي لا يصيبها ويصيبني مكروه كذلك الذي حدث فجر يوم الأحد 9 إبريل 1972 عندما نسف الأشرار سيارتي. وبعد اغتيال الزميل والروائي الفلسطيني غسان كنفاني الوجه الإعلامي المتألق في (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) بعملية تفخيخ لسيارته مشابهة لعملية تفخيخ لسيارتي، حولت الزميل إلى أشلاء وكان سيصيبني ما أصابه لولا أن الله - سبحانه وتعالى - لطف، ووجدت نفسي أتساءل: هل يجب عليّ أن أنصرف وأختم حياتي الصحفية؟ لكنني اعتبرتُ النجاة من الفاجعة التي كانت ستحدث منحة من العناية الإلهية وواصلتُ الرحلة المضنية في دنيا (التعريب) بحلوها ومرها وهو ما رواه وحلله ووثقه الدكتور خليل أحمد خليل أستاذ علم اجتماع المعرفة في الجامعة اللبنانية وصاحب مؤلفات كثيرة في السياسة والاجتماع والتوجهات المذهبية في كتاب من جزأين حول تجربتي بعنوان (هموم العرب حكاماً ومحكومين) يعتمده بعض طلاب الجامعات العاملين على تحضير الأطروحات كون الدكتور خليل أكاديمياً مُستنيراً وموضوعياً شاركني الرأي في أنه من الضروري إنعاش ذاكرة أربعة عقود عربية ما أحوج جيل الحاضر إلى معرفة خفاياها ووقائعها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن اختيار الدكتور خليل لشخصي كصاحب تجربة إعلامية تنوعت جغرافيتها بين بيروت والقاهرة وباريس ولندن وكنموذج لإعلامي مثابر ومتابع للشأن العربي الشامل ومن المحيط إلى الخليج، جاء أولاً من منطلق دوري في تعريب (النهار) الذي شكَّل النقلة النوعية في مسيرتها، تلا ذلك مراحل أخرى في المسيرة تتمحور حول النشر والتأليف والمسؤولية أبرزها مرحلة لندن التي كان لمساندة الملك فهد بن عبدالعزيز والرئيس صدام حسين لفكرة التضامن العربي من خلال (التضامن) المجلة وتقييم الأمير سلمان بن عبدالعزيز للنهج الذي اعتمدته لها وتفهُّم الشيوخ سعد العبدالله السالم الصباح وعبد العزيز عبدالمحسن التويجري وناصر المنقور لظروف النشر في عاصمة مثل لندن، الأثر الكبير في رونق (التجربة التضأمنية) التي ما أحوجنا إليها في الزمن العربي الراهن حيث الاشتباك السياسي على أشده وحيث الإرهاب يدق كل البوابات من دون استثناء مع تركيز على بوابة السعودية كونها الأكثر صلابة.
يبقى أن ما كتبتُه هنا عن غسان تويني نأى عن تناول صدمات من الطبيعي أن تتخلل أي علاقة عمل أو علاقة صداقة طالت سنواتها وتنوعت ظروفها، فالذي يعنيني كواحد من طبقة (صغار المُّلاك) في (النهار) وسط طبقة الإقطاع تماماً على نحو صكوك التمليك التي وزعها عبدالناصر على الفلاحين المحرومين بعدما أمم كل صاحب أرض شاسعة مع فارق أن ملكيتي وزملاء آخرين لأسهم في (النهار) كانت مقابل تعويضات الخدمة، هو إلقاء الضوء على ذلك الزمن المُبهر عموماً المأساوي في بعض جوانبه، كما أن الذي يعنيني أنا أحد الذين يعتبرون أنفسهم شركاء أحزان غسان تويني المتتالية في فقدان أحبته، الزوجة ناديا حبيبته تسبقها مهجة هي الابنة الوحيدة نايلة يليها مهجة ثالثة هو الابن مكرم فمهجة رابعة هو الابن الباقي جبران، هو استحضار بعض ملامح تلك المرحلة التي هي مرحلة (التعريب) ل(النهار) التي ما كانت لتنشط لولا حسن إدراكه للمردود المعنوي الوفير، ولولا أن العمل في (النهار) يتحول إلى حالة حب وتعاطف مع الحروف والورق حتى إذا حدثت للمحب مثل حالي الصدمة الكبرى من الصدمة الكبرى.
وأما الكبرى فهي أن الغيرة في دوري في (تعريب) الجريدة كادت تتسبب بقتلي من زميل طالما داويتُ حالته على حساب تحقيقي عملاً بالقول الذي اعتمده الرئيس الشهيد رفيق الحريري على واجهة سرايا البيارتة مقر رئاسته التي لم يهنأ فيها ما يكفي ويستحق، والقول الذي أعنيه هو: (لو دامت لغيرك لما آلت إليك). كما أن المداواة من جانبي ومن جانب آخرين حدثت بعدما دخل ذلك الزميل حالة (سن اليأس) في مجال الكتابة والصحافة والعلاقات مع العالم العربي. وقد وصلت به الغيرة إلى حدّ أن يسجنني ويحاول قتلي على يدي مجرم يرافقه، ولولا لطف الله لانتهت حياتي أو انتهيت مُقعداً. وأما الصدمة الأكبر أو فلنقل أم الصدمات فكانت بغسان تويني الذي بعدما عرف بالواقعة ورأى ماذا حدث لوجهي وصدري ويدي اللتين طالما أرهق القلم أصابعهما من كثرة واجبات دور (تعريب النهار) استوعبت التجاوزات والنزوات تاركاً في نفسي مرارة لا يزال علقمها منذ تلك الواقعة يوم الخميس 27 يوليو 1972 عالقاً في وجداني.. مع ملاحظة أنني منذ الصدمة الأكبر بدأت أُعد النفس والقلم للتحليق في مدار آخر بدأ في (الأهرام) ثم في (المستقبل) ثم في (التضامن) التي بعدها بدأت مرحلة (الشرق الأوسط) و(اللواء) والعطاء في مجال التأليف وآخره وليس أخيره إذا أمد الله بالعمر وأبقى على حيوية القلم والذاكرة، كتابان أحدهما للقائد التاريخي قلم ينصفه، التويجري عن الملك عبدالعزيز. وفي الكتابين والخمسة عشر كتاباً التي صدرت خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات كانت مرحلة (تعريب النهار) حاضرة في بعض الفصول، وكان غسان تويني كأحد أصحاب الفضل في تلك المرحلة مواضع الامتنان والتقدير في نفسي.