صفحتان؟ وهل تكفي صفحتان لأعبر عن مشاعري وأروي ذكرياتي عن صديق العمر، عملاق الصحافة والسياسة والأدب غسان تويني، ألا يعرف من طلب مني أن أكتب عن غسان في حدود الصفحتين أن بيني وبينه تاريخا طويلا من العلاقات والمحبة والصداقة تضيق بها دفتا كتاب؟ أيجوز أن أختصر هذا التاريخ في بضعة سطور؟ فماذا أذكر وماذا أترك؟ أأذكر سني الخمسينات عندما وفد الى عالم الصحافة جورج أبو عضل فأسس مجلتي المجازين والأسبوع العربي، وكنا نلتقي سوية في مطعم السان جورج: المرحومان كامل مروة وجورج أبو عضل، وغسان تويني وأنا لنناقش ونخطط لصحافة عربية متطورة ومتقدمة تحترم القارئ بقدر ما تتطلع الى تقدم الأمة. كانت اللقاءات تتوالى، وينضم إلينا صحافيون وسياسيون، فيحتدم النقاش حول السياسة والاقتصاد، وكان غسان يعبر عن آرائه بجرأة وقوة لا يخاف لومة لائم، لذلك كنت كثيراً ما أقوم بدور حمامة السلام بينه وبين جورج أبوعضل الذي كان يرغب فعلاً ويتمنى التعاون معه في الميدان السياسي، رغم اختلافه معه، فقد كان أستاذاً يخطط ويرسم الدروب للكثيرين من كبار رجال السياسة وخاصة منذ الخمسينات ولغاية التسعينات كي يساعد لبنان على الخروج من أزماته ويصبح نموذجاً يحتذى في كل البلدان العربية.
قبل هذا الأفق العربي الواسع كانت تطلعات غسان تحصر نفسها داخل حدود سورية الطبيعية كما كان يطلق على بلاد الشام. وقد نادى وعمل وكتب وبشر بذلك. ولعل الأحداث التي شهدتها المنطقة والاختراق الذي حققته صحيفة النهار في معظم البلدان العربية قد وسع من هذا الأفق وزاد من وعي غسان ليس بأهمية سورية الطبيعية فقط بل بأهمية المنطقة العربية كلها، ولعله اكتشف تلك الخيوط التي تربط بين مصير لبنان ومصير باقي البلدان العربية.
في عقدي الستينات والسبعينات حيث كان لبنان يمر في مرحلة دقيقة، كان مكتب غسان تويني في شارع الحمراء في بيروت يضم يومياً نخبة من السياسيين أشهرهم كميل شمعون وريمون إدة وبيير الجميل يتحاورون ويخططون للحلف الثلاثي ولعودة الديمقراطية الى لبنان كما كان يجتمع معه بالتوازي نخبة من الصحافيين والسياسيين من بينهم جورج نقاش وبيير إدة وسليم اللوزي وسعيد فريحه -رحمهم الله جميعاً- وأنا بصفتي آنذاك رئيس مجلس أدارة الشركة الناشرة لمجلتي الأسبوع العربي و(ماغازين) وساها، لنناقش أمور الصحافة وهمومها وكيف نرتقي بها ونحقق استقلالها الاقتصادي طريقاً وضماناً لاستقلالها السياسي.
في هذه الفترة من عقد السبعينات زاد غسان من رأس مال جريدة النهار، وقناعة مني بعدالة المعارك التي كان يقودها، ولثقتي به شاركت رمزياً بهذه الزيادة باقتناء بعض الأسهم دون أن أنتظر أرباحاً وفيرة وعندما زاد في فترات أخرى رأس مال النهار مرات عديدة ودخل مساهمون جدد ذوو ملاءة مالية ضخمة، أبقيت على مساهمتي الأصلية التي أردتها منذ البداية رمزاً لمحبتي وتأييدي له وسبيلاً لأبقى قريباً منه في تطلعاته.
وقد برزت فكرة إصدار نسخة عربية من مجلة المختار (ريدرز دايجست)، وقد بادرنا غسان ولوسيان دحداح وأنا لتنفيذ الفكرة. وكانت النسخة العربية من هذه المجلة الشهيرة التي تتمتع بجمهور واسع من القراء قد احتجبت عن الصدور لأكثر من ثلاثين سنة. وقد صدرت المجلة في حلتها الجديدة سنوات عديدة في باريس لصعوبة العمل في بيروت في تلك الفترة (ما بين 1975 و1990) ثُم توقفت لظروف خارجة عن إرادتنا.
وإنني لن أنسى الجلسات الخاصة التي كانت تضمني مع غسان وريمون إدة. كان غسان يحب ريمون إده كثيراً وكان ريمون يكن له نفس القدر من المحبة ولكن النقاش بينهما كان دائماً حاداً الى درجة كانت تثير عجب الآخرين الذين يعجزون عن فهم هذه العلاقة بين رجلين نادراً ما يتفقا على شيء وغالباً ما يكون الخلاف بينهما، ومع ذلك كانا نادراً ما يفترقان. أما بالنسبة لغسان فقد كان تفسيرالأمر بسيطاً، كان يقول: أحلى أوقاتي أقضيها مع ريمون إدة لصفاء ذهنه وللميزات الكثيرة التي ينفرد بها، ولكن مع الأسف كان لا بد لهذا النقاش الممتع أن ينتهي بخلاف كبر أو صغر، وكأنه كتب عليهما أن لا يتفقا، ولكنه كان يمتعنا نحن دوماً بالآفاق الرحبة التي كان يحملنا إليها. ولعل من أسباب هذا التلاحم بين الرجلين رغم الخلاف هو إيمان غسان بحق الآخرين في الخلاف والاختلاف والتعبير عن الرأي الآخر. وسيبقى الإيمان بالديمقراطية صفة أصيلة من صفات غسان.
أحب غسان لبنان حراً متحرراً سيداً لذلك فقد جاهد جهاد الأبطال، عندما كان سفيراً للبنان فوق العادة في الأمم المتحدة، لاستصدار القرار 425 الذي أقر استقرار لبنان وخروج الجيش الإسرائيلي منه من دون قيد أو شرط. لقد جابه وحيداً جميع الدول في مجلس الأمن، وكان بالمقابل يعلم صعوبة الحصول على موافقة جميع الأطراف في لبنان على القرار الذي كان يؤمن أنه في مصلحة لبنان والذي تبنته فيما بعد كل دول العالم وكل اللبنانيين، وأراد أن لا يتركه عرضة للمساومات ولا أن يتعرض هو لمتاعب أوامر من بيروت قد تكون نابعة من مصالح سياسية ضيقة أو نقص في الشجاعة السياسية، ولا تكون في مصلحة لبنان، لذلك استغل وضعاً فنياً معيناً، وهو صعوبة الاتصال الهاتفي ببيروت الذي كان شبه مستحيل وكان التلكس واسطة الاتصال الوحيدة، فأعطى سكرتيرته جريدة النيويورك تايمز وقال لها أن ترسل كل ما فيها من موضوعات إلى وزارة الخارجية في بيروت بواسطة التلكس، وقال لها: اعملي بتمهل ولا داعي للعجلة واحرصي أن لا ينتهي إرسال التلكس إلا بعد أن ينتهي النقاش والتصويت في مجلس الأمن. وهكذا كان حيث استطاع الرجل بذكائه وعبقريته أن يحقق النجاح لخطته تلك.
وإن أنس لن أنسى تلك الليالي الطوال التي كنا نقضيها غسان وأنا في قصر بعبدا في ضيافة الرئيس سليمان فرنجية -رحمه الله- وكان فرنجية رغم حذره من غسان لصعوبة انضباطه وانصياعه لأوامر لا تقنعه، حتى أنه استقال عام 1970 من منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، وكان سبب خلافه مع الرئيس فرنجية السياسة التعليمية. وكان الرئيس فرنجية قد اختاره ليكون وزيراً الى جانبه في عدة وزارات أصالة أو وكالة وذلك تقديراً منه لعبقريته وحنكته رغم عدم اتفاقهما في كثير من الأمور. وكان الرئيس فرنجية قد عين غسان التويني نائباً لرئيس الوزراء، ثم ذر الخلاف قرنه بينهما فاستقال غسان فهو لا يعرف المجاملة او الحياد، فهاجم وانتقد مما دعا الرئيس فرنجية لتحريك الدعوى ضده لدى النيابة العامة والقضاء عام 1970 وسجن ولكنه خرج بريئاً.
إنني لا أستطيع أن أسرد في هذه العجالة جميع المواقف الجبارة التي وقفها غسان وكان لها أثر في مسيرة لبنان، كما لا أريد أن أخوض في أسرار اطلعت عليها بحكم علاقتي به، فهي أولاً وآخراً ملكه هو.
هو عملاق في كل مضمار: في الصحافة، في السياسة، في الكتابة، في تحليل الحدث، يفرق بوضوح بين الإستراتيجية والتكتيك، ولكنه عملاق فيهما كليهما. وهو أولاً وقبل كل شيء عملاق في إنسانيته. كانت الكوارث تتوالى عليه فتدمي قلب القريب والبعيد ويجابهها غسان برجولة المقدام، وشجاعة الفارس، وواقعية المؤمن بالقدر، بل بصوفية تعبر عن سمو في الروح، والتعالي فوق الأحزان، والشوق لإغناء الحياة بالمثال والقدوة، ورفض الهزيمة أو الانصياع للكارثة.
هو ضمير لبنان، بل هو تاريخ لبنان، هو الأرزة التي لا تنحني للعاصفة والتي تمد جذورها في أعماق الأرض فلا تعيش إلا في تراب الوطن ولا تتغذى إلا بهوائه ومائه.
لقد كان منذ نعومة أظفاره وحتى الآن يؤمن أن الشعبين السوري واللبناني شعبان شقيقان، وقد أكد هذه القناعة في آخر برنامج تلفزيوني ظهر فيه حيث قال إن السوريين واللبنانيين سيبقون إخوة مهما حدث بينهما من خلافات ستبقى على السطح. وكثيراً ما دخلت عليه وحيداً فأسمعه يترنم بأغنية: أنت سورية بلادي، أنت عنوان الشآم.
أطال الله عمر غسان ومتعه بالصحة ليمتعنا بعطاءاته وصحبته.