حين ينصت المرء إلى حديث غسان تويني يشعر وكأنه يجوس في ثنايا ذاكرة لبنان الحية، بل وذاكرة الشرق الأوسط بكامله، وهي ذاكرة منظمة ومتقدة، لم تنل منها متوالية السنين، ولم تفت في قوتها المحن التي تناوبت على لبنان حتى طالت يد المنون ابنه جبران تويني، فكانت كارثة الاب المكلوم في فقدان ابنه جبران في تفجير سيارة عام 2005، كأنما هي عناصر تقوية أركان هذا البنيان الصلب الممثل في شخصية غسان تويني، الذي تتعدد ساحات القول فيه ما بين التاريخ والأدب والصحافة والفن والفلسفة حتى افصح فكره كتابا مفتوحا لكل ناهل من هذا الرصيد المترع بالموضوعية وتناسق الرؤية وتكامليتها.
واذا كان غسان تويني هو صاحب المقولة الشهيرة التي ملخصها ان الحرب في لبنان تدور من أجل الآخرين، فإن غسان تويني نفسه قد دفع نصيبا من فاتورة الدم التي دفعها ويدفعها لبنان من أجل الآخرين ومن أجل استقلاله وسيادة أراضيه وقراره السياسي وعزته الوطنية، ومن ثم فإن الحديث عن غسان تويني بمعزل عن لبنان أو العكس يبدو فيه انتقاص كبير من التأريخ الموضوعي للبنان وتاريخة المعاصر، حيث يعرف غسان تويني عدوه جيدا ويميزه بوضوح من بين ثنايا مشاهد المعارك التي لا تنقطع ولا ينفك يحذر اللبنانيين من ان تروح بهم المشاحنات الجانبية بعيدا عن المسبب الرئيس لمعاناة اللبنانيين، وعلى هذا النحو يبدو غسان تويني عن حق خليفة لزرقاء اليمامة، فهو يرى عن بعد في كل الاتجاهات ويسجل مشاهداته عبر جريدته التي تحمل بصماته منذ يوم أسسها أول مرة (النهار) وكأنه يقرأ في كتاب القدر أنه مكتوب على لبنان ان يعيش نهارا متواصلا من الكد والعمل لا يستريح يوما ولا يأوي إلى هدأة أو حتى قيلولة أو استراحة محارب.
ومن أبدع ما سيترك غسان تويني من أثر في تاريخ اللبنانيين المعاصر، هو قدرته على تصحيح أخطاء المسيرة التاريخية للصراع في لبنان وحوله وبسببه. وكثيرا ما يوقف محدثيه عن نقطة معينة ليصحح خطأ في المعلومات ليس أقدر على تصحيحه منه هو نفسه، وعلى المتناولين لحركة التاريخ المعاصر في الشرق الأوسط ان يتذكروا جيدا، وفي كل حين، مقولات غسان تويني ولعل اشهرها أيضاً قوله: هيدي حرب ما حدا راح ينتصر فيها على حدا. وهو بذلك يلخص ما فات ويقرأ المستقبل الاتي بناء على قراءاته للماضي، ربما هناك كثيرون غير غسان تويني دفعوا أيضاً ضريبة دم مباشرة من ساسة لبنان ونجومه اللامعين، ولكن خصوصية غسان تويني انه لم يسع لتوظيف محنته الشخصية لتعلية فريق من المتصارعين السياسيين في لبنان على فريق اخر، بل ظل على حياده وموضوعيته، واحيانا يحار المرء في فهم مصطلحات كبيرة ينطق بها غسان تويني، ومن ذلك قوله: لبنان دوله بدها تخترع كل يوم!!
وقد يفهم القارئ أو المتابع ان يخترع الإنسان آلة أو أداة من أدوات المدنية الحديثة، لكن ان يخترع إنسان (او اناسي كثر) دولة، فذلك هو اللغز الذي يشتد الغازا بإضافة عجز الجملة إلى صدرها (كل يوم)، واقصى ما يمكن فهمه من حديث تويني هذا، ان لبنان يتأبى على الطروحات العقيمة أو المحنطة أو المستوردة أو التي أعدت على عجل لتجتاز مفصلا ما من مفاصل المعاناة التي يمر بها لبنان واللبنانيون. ولكن بالقطع فإن غسان تويني صادق كل الصدق في هذه المقولة، حيث تهاوت ولا تزال كل الطروحات التي اريد لها ان ترسي الازمة اللبنانية المتكاثرة بالانشطار والمتوالية في تفاعلاتها، على مرسى معين، يخدم فئة دون فئة، أو يستجيب لمطامع قوم دون آخرين، ونحسب انه مهما طال الزمن وطالت معه صراعات لبنان وآلام غسان تويني وشركائه في المعاناة، فلن يرسو لبنان الا على مرسى يرضي كل الاطراف، ويالها من معادلة شديدة الصعوبة، لكنها على أية حال قابلة للتطبيق ان وجدت من يضع كلام غسان تويني موضوع التنفيذ فيبتكر حلولا اختراقية تحقق مقولة (اختراع لبنان، أو اختراع الدولة اللبنانية، وكل يوم) دون كلل أو ملل أو اقتحام فوق القوانين والأصول التي يجري على اساسها تداول السياسة اللبنانية، ومهما ألقى الزمن من سياسيين في أتون الصراع السياسي اللبناني، فإن مقولة غسان تويني ستظل هي صاحبة السبق في ان تكون مقياسا لنموذج السياسي المتمتع بالذكاء السياسي الكافي لابتكار أو اختراع «دولة لبنانية» كلما دعت الضرورة.
*رئيس تحرير جريدة الوطن العمانية