ثمة في الناس من يعرف قيمة المعرفة وثمن الكلمة، ولذلك فهو في سباق مع الزمن في مسعاه للتحصيل، وفي حركته لتحقيق النتائج في ميدان الحياة وفق القاعدة الحاسمة في معطياتها: أكثركم خدمة للإنسان أكثركم تحصيلاً وعطاءً.
وعلى هذا الأساس، فإن مسيرة الحياة عند هؤلاء تعيش في رحاب المعرفة، فلا ينتهي البحث فيها ولا تتوقف التجارب في كنفها إلا عندما يسكن الجسد ويتوقف القلب عن الخفقان وتدخل النفس في رحلة نحو الملكوت.
ومن هؤلاء الذين اجتذبتهم دنيا المعرفة وأغوتهم مسيرة التحصيل والعطاء في ميدان المعرفة الإعلامية والسياسية والأدبية، الأستاذ غسان تويني، الذي خاض التجارب السياسية الحزبية بمرارتها المعروفة في لبنان، ثم دخل في المعترك الدبلوماسي في المراحل التي كانت ترسم فيها الحلول لبلدنا وفق ما تقتضيه مصلحة الكبار الذين تقاسموا العالم وأرادوا للبلدان الأخرى، وخصوصاً بلداننا ومنطقتنا العربية والإسلامية، أن تكتوي بنار حربهم الباردة وأن تسير الخطط في أرضها على وقع علاقاتهم ومن رحم مشاكلهم أو اتفاقاتهم.
لقد شهد الأستاذ غسان تويني في مسيرته السياسية والدبلوماسية، سفيراً في الأمم المتحدة، ووزيراً ونائباً في لبنان، واحدة من أشدّ المراحل قسوةً والتي كان يراد من خلالها التمهيد لما نحن فيه الآن من اضطراب وفوضى على مستوى المنطقة كلها للذهاب بالقضية الفلسطينية إلى المتاهات ولإفساح المجال لإسرائيل بالدخول إلى عمق النسيج العربي والإسلامي وصولاً إلى الهدف الأكبر الذي يجعلها المشرفة على ترتيب المنطقة وربما على تنسيق العلاقات وتوجيهها بين العرب أنفسهم، بما يجعلها عنصراً فاعلاً وطبيعياً بين مجموعة منفعلة من الدول، وبما يؤكد أنها الحقيقة في منطقة يراد لأهلها وأبنائها أن يكونوا الأوهام، وفي ساحة تدخل فيها النزوات الدولية في طور الذروة، فيعود الاحتلال الأجنبي المباشر إليها وتعود الفتنة إلى ميادينها من الأبواب الواسعة... وهو الأمر الذي يشهده لبنان في المرحلة التي تشابكت فيها عناصر أزمة المنطقة بالعناصر اللبنانية للأزمة الداخلية في البلد الصغير، حيث دفع ثمناً لذلك من لحمه ودمه، وخصوصاً في الجريمة التي أودت بحياة نجله النائب والإعلامي، جبران تويني، ليدخل في المعاناة من أبوابها الكبرى ولتتداخل عناصر المأساة في الوطن مع عنصر المأساة في العائلة التي أرادها أن تسير في خط المعرفة والعطاء في الميدان السياسي والإعلامي، ولكن الفتنة بخيوطها الدولية وتعقيداتها الإقليمية عضّت بأنيابها محلياً فكانت أقوى من الجميع.
إن لبنان الصغير يمثل الساحة الأكثر حيوية في المنطقة في اجتذاب الخارج وفي اشتباك الداخل، وهو الساحة التي تصنع الكبار وتنتقم منهم في الآن نفسه... وقد حافظ لبنان كثيراً على دور «الساحة» إلى المستوى الذي أكل حشاشات الأنفس من أبنائه وإلى الحد الذي كاد يسقط شهيداً في لعبة القتل الدولية الدائرة رحاها في المنطقة.
وقد شهد الأستاذ غسان تويني ذلك كله وواكبه بالبصيرة النافذة والقلم الراصد لخبايا الأمور والمواقف المتابعة لخفاياها، فكان شاهد مرحلته بأدق تفاصيلها وأخطر تجاربها، وقد عالج ذلك في مقالاته وتحليلاته ومواقفه على صفحات (النهار) وغيرها، فيما انفتح فيه على الواقع كله، وبما يمكن لأهل الاختصاص والمتابعة رصده في غنى التجربة وقساوتها وإيجابيات الحركة أو سلبياتها، لأن شخصية في حجم غسان تويني، لابد من أن تترك بصماتها في الإيجاب أو السلب من خلال ضخامة التجربة وتنوعاتها ومن خلال الرياح السياسة والإعلامية العاصفة التي حاولت أن تحجبها في هذه المرحلة أو تلك.
ولكنني أعتقد أن الحاجة تبقى ماسّة للأجيال الصاعدة لكي يكتب غسان تويني تلك التجارب ويدوّنها في سجل الحياة السياسية اللبنانية والعربية بعدما اختزنتها الذاكرة واعتملت في العقل السياسي المنفتح. ولذلك آمل أن يتسع الوقت له ليعيد كتابة صفحات حياته الحافلة بالتجارب، لأنني أعتقد أن دوره الأساسي يرتكز هنا، كما يتمحور في بقائه عنصر توازن وترشيد للواقع السياسي اللبناني الذي دخل في الفوضى، ويراد له أن يطل على ساحات الضياع في متاهات القضايا المعقدة في المنطقة والعالم.