بالنسبة للشخص الروسي لايعد العالم العربي قريبا من الناحية الجغرافية، وهاما من الناحية الاقتصادية، وضروريا من الناحية السياسية فحسب،وإنما أيضا له قيمته ومعزته من الناحية الثقافية، فللعلاقات الثقافية التاريخية بين شعوب روسيا والبلدان العربية بعدها الديني أيضا اذ يعتبر عشرون مسلما في روسيا المشرق العربي وطنهم الثاني ومركز الحضارة الاسلامية، بينما لاينسى الارثوذكس الروس، الذين يشكلون 80% من سكان روسيا الضخمة أن إخوانهم في العقيدة يعيشون في العالم العربي، تجمعهم أقدم الكنائس الارثوذكسية- اليونانية العريقة: كنيسة القدس، وكنيسة الاسكندرية، وكنيسة انطاكية. بيد أن للبنان باعتباره احد مراكز الحضارة العربية الارثوذكسية العريقة، في قلوبنا مودة خاصة، فنفرح لنجاحاته ونأسي لنكباته. فمن الطبيعي اذاً أن يكون العرب من أبناء الطائفة الاثوذكسية الذين حققوا النجاح في هذا المجال أو ذاك، موضع اهتمام واعتزاز الروس المهتمين بالشرق الاوسط (وهم كثيرون جدا في بلادنا)، وذلك بغض النظر عما اذا كانت هذه الشخصية السياسية او الاجتماعية قريبة من روسيا سياسيا وما اذا كانت مواقفها تتفق والمصالح الروسية ام لا.
واللبناني غسان تويني معروف جيدا في روسيا، كما هو في العالم كله، منذ زمن طويل. وغسان تويني متعدد الاوجه ومتقلب، مثل لبنان المعذب، بتاريخه الصعب، وحروبه ونزاعاته اللامتناهية، والصراع الاجنبي الضاري للسيطرة عليه، وصموده البشري وحبه للحياة المنقطعي النظير، وعبقرية أهله المالية والاقتصادية، وتنوع تركيبتهم الطائفية المعبر عنه في أمر غريب على المراقب الاجنبي(حتى ولو كان من بلد متعدد القوميات والطوائف مثل روسيا) الا وهو المحاصصة الطائفية، المنصوص عليها في الميثاق الوطني.
ومايستدعي الدهشة هو : كيف استطاع هذا الشخص المتفرد أن يجمع في حياته كل تلك الامور و يكابد تلك المعاناة ! هذا السياسي الذي طرأت على وجهات نظره تطورات جدية.. هذه الشخصية السياسية - السفير والوزير - الذي اقتفى في ذلك اثر والده.. هذا الفيلسوف الذ ي ركز في خبرته الفكرية منجزات الحضارة العربية والثقافة الاوربية عبر الرابطة الوثيقة بالبيئة الثقافية للولايات المتحدة وفرنسا، وبالفكر الارثوذكسي الذي كمايبدو لي أصبح قريبا منه بصفة خاصة في السنوات الاخيرة.. هذا الصحفي الذي حول الصحيفة الصغيرة « النهار»، ذات الصفحات الاربع التي أسسها والده عام 1933، الى واحدة من أبرز صحف المشرق والمغرب والخليج العربي واكثرها ذيوعا، وكم كان القدر قاسيا على هذا الرجل الذي دعوه بضمير لبنان. توالت عليه الفواجع بفقدان الاعزة : ابنته، زوجته، ابنه الثاني، ثم ابنه البكر.. وكان ذلك كفيلا بأن يحطم أي شخص..الا غسان تويني الذي بقي حيا بفضل قدرته على الصمود، وحبه للبنان، وايمانه بأن أبناء وطنه في حاجة اليه، وخاصة في وقت الشدة، وبفضل عقيدته الارثوذكسية.
أتذكر انه في الماضي البعيد في روسيا السوفييتية كانوا يقدرون غسان تويني تقديرا عاليا، لكن الموقف منه لم يكن واحدا. لقد بدأ حياته السياسية بالالتحاق بحزب الكتائب اللبنانية لفترة قصيرة، ثم تحول الى الحزب القومي السوري، هذان الحزبان اللذان كان توجههما الموالي للفاشية في ذلك الوقت يثيرالرفض ليس في بلادي فحسب. ومن المعروف أن خيار غسان الشاب آنذاك لم يرق لوالده الذي لم يرغمه مع ذلك على التخلي عنه. وعلى العموم فقد كانت هذه الميول منتشرة حينذاك في العالم العربي اذ اجتذبت الافكار البديلة للاستعمار اليها شباب المثقفين، وقد ساعد ارتقاء أفكار الحزب القومي السوري غسان تويني على الاستمرار في ولائه له رغم ما أمضاه من سنين في دراسة الفلسفة في جامعة هارفارد، لقد اكتسب تويني بريق التعليم الهارفاردي لكنه، فيما يبدو، لم يصبح ليبراليا غربيا.
لم ينسحب من الحزب الا عام 1957، وذلك كي يتحرر من أي تحيز يمكن ان يعيق أداءه الصحفي الذي كرس له نفسه كلية. هذا التحرر الفكري هو الذي ساعد غسان تويني على أن يجعل من جريدة (النهار) افضل صحيفة لبنانية. كانت تلك فترة عصيبة بالنسبة للبنان. ففي يوليو- تموز 1958 قامت الثورة في العراق وغزت القوات الامريكية لبنان. والقليلون، حتى اليوم، هم من يعرفون كم كانت الدولتان الأعظم قريبتين من الصدام آنذاك. وفي الجلسات المغلقة للمكتب السياسي أعلى سلطة للحزب الشيوعي الحاكم جرت مناقشات صاخبة حول ماإذا كان في مقدور الاتحاد السوفيتي ان يهدد الولايات المتحدة بالتدخل المباشر اذا ما أقدم الأمريكان على غزو العراق، كانت تلك الازمة مقدمة لأزمة الصواريخ في كوبا عام 1961. وقد نظرت القيادة السوفيتية بغاية الجد الى إنزال القوات الامريكية في لبنان الذي كانت موسكو تعتبره في ذلك الحين تركة أمريكا في الشرق الاوسط. وليس صدفة ان الرئيس اللبناني المنتخب لتوه اللواء شهاب حاول اقناع السفير السوفيتي سرغي كيكتييف في 31 يوليو - تموز 1958 (كما ذكر السفير في برقيته السرية الى موسكو) بأنه كان ضد الانزال الأ مريكي في لبنان، وأنه سيطلب من الامريكان الجلاء (بمجرد فتح البسطة). ورغبة منه في طمأنة السوفييت قال شهاب ايضا انه لايعتقد انه ستثور مسألة منح الامريكان قواعد في لبنان، ولم تنس موسكو ان لبنان هومن الدول العربية القلائل التي ايدت (مبدأ ايزنهاور). ورأت موسكو في خروج الامريكان من لبنان هزيمة لمبدأ أيزنهاور هذا، ولحسن الحظ لم ينشب نزاع كان لبنان سيتورط فيه لامحالة. بالطبع كان الشرق الاوسط في عصر الصراع بين القطبين هو (معادلة الصفر)، ولم يدرك الا عدد قليل من الخبراء في موسكومدى تعقد شبكة نسيج الحياة السياسية اللبنانية.
بعد أزمة 1958 التي اعتبرت موسكو انها كشفت بكل جلاء عن مثالب الطائفية سعت حكومة شهاب-كرامي الى اتخاذ تدابير ايجابية في المجال الاجتماعي بل والاقتصادي ايضا الامر الذي أدى الى تخفيف حدة الاحتقان الطائفي. نعم نحن نعرف أن غسان تويني لم يكن آنذاك مؤيدا لحكومة شهاب- كرامي.. ولكنك لن تجد اليوم أيضا في لبنان وفي العالم العربي وخارجه شخصان اثنان يتفقان في الرأي حول ماهو الافضل للبنان في ذلك الوقت. وأيا كان الأمر فقد كان غسان تويني يتصرف انطلاقا من تصوره لمصالح لبنان ومن وحي ضميره، مناديا بالحفاظ على هوية لبنان الخاصة وتركيبته السياسية، ومعارضا لتقرير مصيره من خارج حدوده، وبالمناسبة ألا يجدر بنا نحن المثقفين الروس الذين تتنازعنا على مدى عشرات السنين نزعة التربة (أي الوطنية المنغلقة على التقاليد القومية الخاصة والمرتكزة الى الهوية الخاصة) والنزعة الغربية.. الا يجدر بنا أن نفهم اللبنانيين الذين تتجاذبهم الطائفية والعروبة والنزعة الغربية وسوريا الكبرى والوطنية اللبنانية؟!
في حياة لبنان السياسية المضطربة لعب غسان تويني دورا مهما وفي غايةالحيوية كصحفي وكسياسي، ولذلك فقد اعتبر كثير من اللبنانيين الذين التقيتهم انه لو لم يكن ارثوذكسيا لأصبح رئيسا للجمهورية. ربما كان الأمر كذلك، ولكن لو لم يكن أرثوذكسيا أما كان سيكون شخصا آخر؟ أيا كان الأمر فقد شغل مكانة خاصة بين الكثيرين من ابناء هذه الطائفة الذين لعبوا دورا بارزا في الثقافة العربية والسياسة العربية .
بالنسبة لي بدأ تعرفي بلبنان عام 1968، في أعقاب حرب يونيو- حزيران عام 1967التي اندلعت وأنا طالب بجامعة القاهرة. وصلت الى لبنان مع نائب رئيس اللجنة السوفييتية للتضامن، الصحفى المعروف فلاديمير كودريافتسيف لتفقد الأوضاع في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. عندها أدركنا الى أي مدى انعكس النزاع في الشرق الاوسط على لبنان رغم أننا لم ندرك بعد الى أي درجة ستحدث المشكلة الفلسطينية ذلك الصدع العميق في المجتمع اللبناني، وفي ذلك الحين ،وأنا بعد مستعرب شاب صغير، سمعت بغسان تويني وتعرفت الى صحيفته.
بيد أن أقسى المحن كانت ماتزال بانتظار لبنان.. الحرب الأهلية في السبعينيات والتي كشفت مدى هشاشة البناء الطائفي للدولة اللبنانية.. الغزو الاسرائيلى عام 1982 واحتلال جنوب لبنان... وكان غسان تويني دائما في المقدمة، معايشا لهموم وطنه في أصعب فترات تاريخه، نشطا كسياسي وكصحفي، وصاحب موقف خاص في الصراع السياسي الداخلي الحاد في لبنان. وبوصفه مستشار الرئيس أمين الجميل لعب دورا متميزا في الاحداث التي وقعت أثناء توليه رئاسة لبنان. ولم يكن اتفاق السلام الموقع مع اسرائيل في17 مايو-أيار 1983 أفضل إنجازات تلك الحكومة، وأذكر كيف قوبل بالنقد الحاد في العالم العربي وفي موسكو. وكان من المنطقي ان يلغى في 5 مارس- آذار 1984.
غير أني لا أريد الدخول في تفاصيل ذلك التاريخ البعيد عن يومنا هذا، على الرغم من أن الحديث عن هذا الانسان المدهش، شيخ السياسة والصحافة اللبنانيتين، المثقف اللبناني غسان تويني، يستحيل دون تذكر تلك الاحداث، وفي الحياة يصادف كل منا النجاح والفشل، الصعود والهبوط، ولايمكن أن يكون ثمة استثناء من هذه القاعدة التي تسري على الجميع.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي انتهى عصر العالم الثنائي القطبين، ولكن ذلك لم يجعل حياة لبنان أكثر هدوءا. فكما أثارت قضية الموقف من حركة المقاومة الفلسطينية في الماضي الانشقاق السياسي، يثيره اليوم الموقف من سوريا.. وهاهي الصراعات السياسية تحتدم، والنزاعات، ثم الغزو الاسرائيلئ الجديد، والاغتيالات السياسية والتفجيرات....ولكن غسان تويني، وقد قاسى الأحداث المأساوية في حياته وحياة وطنه، قد بعث حيا، كما كان يبعث لبنان دائما. فهذا الانسان الحكيم يحتاجه لبنان والعالم العربي وجميع اصدقاء العرب الذين اتشرف باعتبار نفسي منهم. ولايبقى الا أن نرجو لغسان تويني طول العمر ومواصلة العمل في خدمة لبنان بنشاطه الفكري الذي لايعرف الكلل.