شخصية ليبرالية بامتياز، وعلمانية إيمانية مشتركة بامتياز ينتمي إلى خلاصة المسيحية الشرقية العربية كما ينبغي أن تكون عليه صورتها، والتي هي حضاريا طبعا، جزء لا يتجزأ من صورة المشهد الثقافي العربي الإسلامي التعددي في المنطقة.
أجل، تلك هي الهوية التي كافح من أجلها غسان تويني ولايزال، طوال ما يزيد عن ستين عاماً، عرفت الاستاذ غسان من خلال تلاميذه ومعاونيه، ففي مساء جميل من أمسيات بيروت اخذني الصديق جهاد الزين الى مكتب غسان في الاشرفية، كان اللقاء الثاني بعد أن قابلت الأستاذ في إحدى زياراته للكويت، جاء إلى منزلنا معزياً بوفاة أحد أقربائي، وكما هو لمعارفه مرت تلك الأمسية البيروتية باتفاق ثقافي أنتج سلسلة من الكتب أصدرتها دار النهار لحساب مؤسسة ثقافية عربية.
جمع غسان تويني في شخصه كمفكر، كيمياء الرموز الفكرية المسيحية العربية الحديثة، والتي صار هو جزءاً مكملاً من لوحتها العامة لاحقاً، وبكل جدارة واقتدار: فرنسيس المراش، أمين الريحاني، أنطون سعادة، ميشال شيحا، فيليب حتي، قسطنطين زريق وغيرهم.. وغيرهم.
ويستوقفني هنا فكر أمين الريحاني ليعبر بوضوح عن الموقف الفكري لهذه المدرسة، فأمين الريحاني مسيحي لبناني - أمريكي يطوف بالجزيرة العربية في العشرية الثانية من القرن العشرين، أي قبل أقل قليل من قرن كامل، ويلحظ وجود البعثات التبشرية في دول الخليج فيكتب في (ملوك العرب) قوله الخالد فقد قال ما معناه (أنصح المبشرين أن يهتموا بالتعليم والتطبيب، أما التبشير فيكفوا عنه لأن هؤلاء البدو لن يهجروا دينهم الإسلام قط).
هذا موقف ثقافي-حضاري متقدم من هذه المدرسة التي يأتي غسان تويني منها الفهم العميق للتعدد الحضاري.
وصورة المسيحية المشرقية العربية التي أرادها غسان تويني هي امتداد لمدرسة الريحاني، وهي مبنية دوماً على روح النهضة والحداثة والتفتح والحوار، وقبول الآخر والتعايش معه انطلاقا من منصة وطنه لبنان الذي يعتبر مثالا للعيش المشترك بين التعدديات الدينية والطائفية العربية المشتركة، حتى وإن كانت تعصف اليوم بهذا البلد الجميل، محنة كبرى نعرفها جميعاً، ولا حاجة لسرد تفاصيلها العامة المتصلة بالأزمة المستعصية في الشرق الأوسط برمته.
ومن هنا حرص غسان تويني على تجربة لبنان، وخوفه عليها من السقوط لأن في سقوطها -لا سمح الله- سقوطا للعرب جميعاً، ولامتحان انتمائهم إلى العصر، وقدرتهم على تجاوز كل ما يعترضهم من محن سود تتهدد حاضرهم ومستقبلهم، لذا كان موقفه الانساني والمتعالي على الجرح الشخصي بعد اغتيال حبران ابن غسان العزيز، فقد كان متماسكا قويا استعصى على المحنة وعلى الاعداء في آن واحد.
ولا غرو إذن أن يرى غسان تويني في الأنموذج اللبناني ضرورة ليس للبنان بعينه فقط، وإنما للعرب جميعا، بل وللمسلمين قاطبة أيضاً.. وذلك، كما يقول، (لكي يبقى أفق التاريخ المستقبلي فسيحا أمام نهضة عربية جديدة تخلّص الدول العربية، بل الإسلامية كلها، من الانزلاق في مهالك «أصولية جهادية» غريبة عن طبيعة الإسلام، بل هي نقيضة له).
بل وينظر غسان تويني إلى أهمية التجربة اللبنانية على المستوى العالمي أيضا، ومن خلال صرخة جريئة له مفادها: أن لا (حلف بين الحضارات) يبقى ممكنا، إذا لم تنجح الرسالة اللبنانية، فتصير هي لا إسرائيل، خميرة الديموقراطية في المشرق العربي بكل دياناته.
(حروب الآخرين على أرضنا)، هي عبارة لطالما رددها غسان تويني في مقالاته، وقد تحولت إلى لازمة يرددها كثيرون. وهي إنما انطلقت من خشيته على فرط عقد وطنه لبنان، ولم تنم البتة عن ضيق، أو عصبية، أو حيز جغرافي متقوقع بعينه مواجه للعرب، لأنه إذا ما تفجر هذا الأنموذج اللبناني (وتركنا تعدديته تنزل من مجالس الشورى، إلى مزالق التظاهرة الشارعية، بما فيها المنازلات المسلحة، انتهى بنا الأمر إلى جولة جديدة من حروب الآخرين.
والآخرون معروفو الهوية والعداوات لا يزالون يتربصون بنا، يريدون نقل عداواتهم من جديد إلى أرضنا وعقولنا، رغم فشل حروبهم في إزالتنا من الوجود الحر المستقل طوال ثلاثين سنة أو يزيد).
مفكر إذن هو غسان تويني، وسياسي بارع أيضا، زودته ثقافته المتنوعة والعميقة بكل هذا الدفع المعرفي الذي نعرفه عنه. فضلا عن أن تجاربه السياسية العملية كنائب لرئيس مجلس النواب اللبناني، وكوزير في حكومات لبنانية متعاقبة، وكذلك كنائب سابق، وكسفير سابق للبنان في الولايات المتحدة الأمريكية.
بل كسجين سياسي في مرحلة قلقة من تاريخ وطنه، فضلا عن تبوئه لمراكز أكاديمية عليا في لبنان، إذ كان رئيسا لجامعة البلمند اللبنانية.. وكان عضوا لمجلس أمناء الجامعة الأمريكية في بيروت.
كل ذلك مكّنه من اختبار العملية السياسية في قلب صحنها المعقد التركيب، وعصفها المأكول، فأنتج كتباً وتآليف كثيرة متنوعة، من شأنها أن تكون مرجعية فكرية سياسية مهمة على امتداد نصف قرن ونيّف من الزمن العربي الحرج، وتاريخ وطنه لبنان الذي يتمثل في جزء منه تاريخ أمته العربية.
وغسان تويني الصحافي ابن الصحافي هو أكثر من متميز ومتألق وصاحب ريادة مكملة، طوّر صحيفة (النهار) التي أسسها والده جبران تويني في الثلاثينيات من القرن الفائت حتى باتت هي الصحيفة الأولى لبنانياً، وربما عربياً أيضا، وذلك منذ الستينيات إلى اليوم، خصوصا أنها عالجت وتعالج قضايا عربية مركزية.. مشرقاً ومغرباً. وكان الملوك والرؤساء العرب يحسبون لها ألف حساب فيما تكتب أو تستكتب.
ثم إن (النهار) خرّجت طواقم صحافية متميزة أسهمت هي الأخرى في ولادة وتعزيز صحف عربية كبرى، داخل العالم العربي، وفي المهاجر. وقد دفع غسان تويني ثمن حريته الصحافية مراراً.. ومعروفة قصة سجنه لشهور عدة في (حبس الرمل) في بيروت، في بدايات السبعينيات، والتي اهتز لها الجسم الإعلامي والسياسي في لبنان أيما اهتزاز، قبل الحرب الأهلية.. وانتصر هو لاحقاً، وانتصرت صحيفته التي غدت عنوانا للحرية، وموئلاً للديموقراطية وتعددية الرأي، تستقطب الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية كافة.
ولا تزال (النهار) إلى يومنا هذا منبراً يتهيّبه الجميع، وتعجز عن شطبه أو تجاهله أية قوة سلطوية، ولا مساومة فيه على الحرية، مهما كان الثمن صعبا وغالياً.. وقد دفعه غسان مجدداً، وفي الصميم، من خلال فقده ابنه الصحافي جبران تويني، رئيس التحرير فيها، حيث اغتيل، قرباناً لحرية الكلمة الجريئة، وإعلاء شأنها وشأوها، كما فقدت (النهار) شهيداً آخر من شهداء الكلمة، هو الصحافي سمير قصير الذي كان كل ذنبه الجرأة في قول الحقائق..
هكذا عارية من كل ضباب.
وغسان تويني الذي تجاوز الثمانين -أمد الله بعمره- لا يزال متقد الذهن، راجح الرأي، ومصوباً للرؤية السياسية والثقافية في بلاده والدنيا العربية قاطبة، لا بل بقي جسوراً، قوياً على المحن والخطوب التي تنزل عليه، الواحدة بعد الأخرى، وكان أول تعليق له حين استقبل الاغتيال الجبان لولده جبران أن دعا إلى التماسك الوطني اللبناني، واعتبار جبران شهيد الوحدة الوطنية اللبنانية، وكم كان رجلا عظيما في تجاوزه المصاب الأليم، حين علّق أيضا، وهو في جنازة ابنه: (دعو إلى دفن الأحقاد كلها).
ومن يقرأ مذكراته (سر المهنة وأسرار أخرى) يلمس كم هو صحافي ناقد وجريء وحصيف، خصوصا في جولاته مع الملوك والرؤساء، ورؤساء الحكومات والسياسيين، ويلمس أيضا هذه الندية العالية في مخاطبتهم بمسؤولية عالية، إنها مسؤولية الأوطان والتاريخ.
وغسان تويني صاحب مقال فصل. فن المقال الصحافي على يديه، صار قطعة استثنائية خاصة، بلغتها الأنيقة، الجديدة، القوية، الضاربة والمعلمة.
وهي وإن كانت تنحو منحى الشعرية والأدب أحياناً إلا أن وضوحها الفكري الصارم، وسعة أفق استيعابها القضايا موضوع التناول، وبعدها عن الرطانة والتقليد، يؤهلها أكثر وأبعد لكي تؤثر في النفوس والقلوب والعقول.