كان عمري يقارب الخمس عشرة سنة عندما سمعت اسم غسان تويني للمرة الأولى..
كنت مع أبي نزور أحد أعمامنا أو أعمام أبي في بيروت في الخمسينيات..
وكان الحديث يدور حول الأحوال السياسية في البلدين الشقيقين بيروت ودمشق..
وكانت أسماء السياسيين والصحفيين تتتالى كالعادة في الحديث المتشعّب..
وعندما مرّ اسم غسان تويني بين الأسماء تدخل أحد أبناء العم وقال لأبي:
- طبعاً أنت تعرفه؟ غسان هو ابن جبران صديق عمي فارس..
شاب متميز.. ذكي موهوب.. له حضور.. وهو وطني جريء وقد ابتدأ يحتلّ مكانة مرموقة في المجال الإعلامي..
وأذكر أن أبي قال إنه يعرفه طبعاً.. فقد تلاقيا عندما جاء غسان إلى دمشق قبل فترة ليجري حواراً صحفياً مع الجدّ فارس بعد انقلاب حسني الزعيم..
ولم أكن لأهتم بما يقولون لولا أنه بادرني سمير أقرب أبناء العم إليّ قائلاً:
- أنت الكاتبة الصغيرة في الأسرة.. سيسرّك أن تتعرفي إليه.. لأنه سيساعدك في نشر ما تكتبين في الصحف.. سأعرفك أنا إليه..
كنت في ذلك الزمان ما أزال في الثانوية... وكنت أنشر قصائد بالفرنسية في مجلة لبنانية تدعى (صبية اليوم) Jeune Fille d'aujourd'hui
وأنشر خواطر ومقطوعات وجدانية في صحيفة المدرسة وفي مجلة خالي (المضحك المبكي).
وسرّني طبعاً أن هناك شاباً صحفياً لامعاً وقريباً من الأهل سيهتم بكتاباتي..
لكنني عدت مع أبي إلى دمشق قبل أن يعرّفني سمير إليه...
وعادت الحياة في دمشق تقتحم حياتي...
وبين الدراسة؛ ومحاولات التأليف، والتسكعات مع الصبايا، وزخم الأجواء السياسية في بيت الأهل...
نسيت زيارتنا بكاملها إلى بيروت!
لكن اسم غسان تويني بقي يحتل في الخاطر مكاناً حميماً بين أفراد الأسرة...
وصارت أخباره تُصنّف في ذاكرتي مع أخبار أبناء العم العديدين حتى خلته مع الزمن واحداً منهم!
لم يخطر في بالي يوماً أن عدم لقائي به يؤثر في موضوع هذه الصلة التي تولدت في خاطري!
فكم وكم من أقرباء أهلي أعرف بوجودهم ولا ألتقي بهم مطلقاً.. ويظلون أقربائي..
ومع أني في السنوات التي تلت أي في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات، كنت أقضي معظم أوقاتي في المدينة الشقيقة..
إذ إنني بعد أن حصلت على البكالوريا في دمشق تسجلت في الجامعة اليسوعية في بيروت (كلية الحقوق).
ومع أنني فيما بعد - وكانت السنوات قد زوّجتني! وغرّبتني وأعادتني إلى دمشق - سجلت ابنتي في مدرسة للبنات أيضاً في بيروت...
وأيضاً مع أنني كتبت طوال تلك السنوات في صحف لبنانية - الحسناء، الديار، الأسبوع العربي - وكنت أعرف معظم الصحفيين..
إلا أنني لم ألتق بغسان تويني في يوم من تلك الأيام..
حتى كانت سنة 1974
في تلك السنة عقد في دمشق بمناسبة انتهاء حرب تشرين مؤتمر للصحفيين العرب.. وأقام في أثنائه الرئيس الكبير حافظ الأسد مأدبة عشاء للصحفيين في فندق الأوريان بالاس العريق..
كانت القاعة الواسعة تعجّ بالمدعوين من أعضاء قيادة، وضباط، وأدباء وصحفيين..
وكان الجميع متجمعين حلقاتٍ حلقات عندما جاء غسان تويني..
اليوم أسجل للحقيقة أنني في تلك السهرة التقيتُ بغسان تويني للمرة الأولى..
لكني يومها رحبت بقريبي وكأنه الصديق القديم!
أليست معرفتي به قديمة يرجع تاريخها إلى قبل ربع قرن من الزمان عندما رافقت أبي لزيارة أعمامه في بيروت؟
أذكر أن غسان في تلك السهرة كان يقف مع مجموعة من الضباط الكبار والمسؤولين.
لكنه تركهم واقترب من حلقتنا وكنا مجموعة من الأدباء والشعراء والصحفيين..
وقال للزملاء بلهجة لا تخلو من النزق:
- ما هذا؟ أريد أن يقدمني أحد إلى الرئيس لكن السادة المسؤولين الذين كنت معهم اعتذروا..
ابتسمت (لقريبي) وقلت له في مودة:
- تعال معي..
كنت في ذلك الزمن وما زلت مقتنعة تماماً ومؤمنة بأن حافظ الأسد شخصية تاريخية لا يجود الزمان بمثلها إلا نادراً..
وكانت قناعتي هذه - كما قناعتي دائماً في أي موضوع - تدفعني لأن أتصرف بثقة ومحبة.
وسبقتُ غسان المستغرب إلى الرئيس الكبير وقلت له:
- أود أن أقدم إليك الصحفي غسان تويني إذ إن أحداً هنا لم يقم بهذه المهمة..
ورحب الرئيس الكبير بالصحفي الكبير
وقال له معاتباً في ابتسامة:
- غريب.. أنا هنا لأتعرف إلى السادة الصحفيين.. فلماذا لا يأتون إليّ؟ على كل حال حسنٌ أن كوليت هي التي تأخذ دائماً المبادرة..
وانطلق الحديث.
وكبرت الحلقة التي ضمّتنا..
وأعتقد - إن لم تخني الذاكرة - أن الرئيس في الأيام التالية قابل غسان واستمرت المقابلة ساعات طويلة..
كما أذكر أنني فيما بعد عندما سألني الرئيس الكبير عن غسان تويني وعددت له مزاياه، كنت في الحقيقة أنقل ما قاله عنه أبي وأبناء العم قبل ربع قرن من الزمان.. وظلّ منقوشاً في ذاكرتي.. ويبدو أنه طاب لخيالي أن يصور لي أن غسان تويني يعرفني مثلما أعرفه..!
لكن العكس تبين لي في اليوم التالي!
كان غبطة البطريرك الياس الرابع قد دعا مجموعة من المسؤولين والصحفيين إلى مأدبة غداء في (صيدنايا...)
وعندما وصلت أنا ودرت أسلم على الموجودين التفت وزير الإعلام وكان يومها الدكتور جورج صدقني، وقال لغسان تويني:
- أنت طبعاً تعرف كوليت؟
أجابه غسان بلهجة ضاحكة:
- كيف لا؟ لقد قدمتني في الأمس إلى الرئيس حافظ الأسد!
ومع أن ما قاله صحيح! وهو الواقع!
إلا أنني بيني وبين نفسي جفلت قليلاً!
ربما كنت أنتظر من غسان أن يقول للوزير:
- طبعاً أعرفها.. فهي قريبتي!
ووجدتني فجأة أتساءل:
ماذا يعرف عني غسان تويني سوى أني قدمته للرئيس؟
ودارت أفكاري بسرعة تستعرض الواقع..
وداخ الوهم في رأسي!
طبعاً غسان لا يعرف عني شيئاً!
بل هو لا يعرفني أصلاً!
كيف يعرفني ونحن لم نتقابل طوال هذا العمر إلا مرة واحدة في الأمس!!
ومن أين له أن يعرف أن هناك صلة قُربى تربطني إليه ما دامت هذه الصلة قد نسجتُها أنا نفسي بعيداً عن الواقع.. وبعيداً عنه!!
وهي قصة عشتها وحدي ولم أشركه فيها!
بل تركته خارج هذا الوهم الجميل الذي جعلته فيه البطل..!
ورحت أهز رأسي مبتسمة كي أخفي ضحكة ساخرة قد تُطلقها نفسي على نفسي!
وظنّ الوزير أن هناك أمراً أخفيه فقال:
- ماذا هناك.. أخبرينا.. أجبته وأنا أضحك:
- قصتي مع غسان تويني طويلة.. لكنني في هذه اللحظة اكتشفت أنني روائية ناجحة فعلاً.. فأنا قادرة أن أقنع حتى نفسي.. بقصصي المختلفة..!!
***
كان ذلك سنة 1974!
ولا أذكر أنني قابلت غسّان تويني يوماً بعد ذلك التاريخ..
فبعد ذلك التاريخ
تتالت الأحداث في بلادنا...
وتسابقت إلينا المآسي...
كم وكم من السنوات الصعبة المخيفة مرّت علينا في سورية ولبنان...
كم من المراحل المُرّة عشناها.. وعشتها أنا شخصياً ونزفت بها كتاباتي.. كم تحمّلنا.. وكم عانينا.. وكم فقدنا من الأحبّاء.. من جميع الاتجاهات.. ومن الأصدقاء من شتى المذاهب..
ومن الأهل.. وكلهم كانوا أهلاً..!
وكم وكم شاركتُ غسان وغير غسان الأوجاع والأحزان والحرقة والأسى.. ومرّ العمر وأنا أخفي سورية في عيني أنشودة عنفوان أخاف عليها.. فأرويها بدمعي.. مرّ العمر وأنا أحضنُ في صدري لبنان.. قلباً نازفاً أغمره بإيماني وبصلواتي.. كي يُشفى..
لكنني في جميع المراحل التي مررنا بها.. والأزمات..
كنت أشعر دائماً باطمئنان كلّما قرأت مقالة لغسان تويني..
أو سمعته يتحدث أو شاهدته على الشاشة الصغيرة..
كانت طلته من خلال الصورة أو الكلمات تجعلني أتفاءل وأقول: لا بأس... الدنيا في أيد أمينة..!
ومثلما غاب الكثيرون من الأهل والأحباء.. ومثلما رحل أبناء العم وأقربهم إليّ.. رحلت كذلك من بالي قصّة الوهم الجميل..
وعاد الواقع يفرض نفسه على خيالي..
وعاد الأستاذ غسان تويني كما هو فعلاً..
ذلك الصحفي الموهوب والمتميز.. والسياسي الذكي المتّزن.. والإنسان الكبير.. وظننتني طويت صفحة على صلة القربة الخرافية..
لكنني اليوم... عندما خابرني الأستاذ عبد الكريم العفنان مراسل صحيفة (الجزيرة) يسألني إذا كنت قد تسلّمت الفاكس الذي يطلب مني شهادة عن غسّان تويني..
ثم علّق مستفهماً للتأكد؟
- أنت طبعاً تعرفينه؟
ضحكت في حنين.. في حنين..
وسمعتني أجيب لا شعورياً:
- طبعاً أعرفه.. فهو قريبي..
* أديبة سورية - المستشار الأدبي للرئيس السوري