إنسان عديد الجوانب والمواهب والتطلعات تتعانق أو تتراكم في نفس غنية، قلقة أحياناً بسبب من صبوتها إلى وجه هو الحق والتواقة إلى رقي للناس لا يحد، إلى حقوقهم وحريتهم.
غسان تويني صعب الغوص عليه لارتباطه بأمداء كثيرة. أين نقطة الجمع عنده بين مدى ومدى؟ من حين إلى آخر يبدو لي أنه يلهو. لا بد في السياسة من لهو ولكن لا بد لها من قناعة إن كنت من الصادقين. الحقيقة أنه يسعى، يبدو لك براغماتياً. هذا لا يجعلني أدينه فهو يحب فلاناً من طراز وآخر من طراز. أين تكمن فيه هذه الوحدة بين وجوه مختلفة؟ أظن أن الجواب أنه يجرب كأساتذة الانكلوساكسون. ولكن هذه قشور.
في اعتقادي أن غساناً إغريقي ليس حيث أنه مهموم بنظام الكون وقراءته على طريقة سقراط ولكن يهمه علاقة العقل بالنفس من حيث هي قلب. يحافظ على المنطق الأرسطي ويُعنى بترتيب هذا العالم الصغير الذي هو الإنسان وهذا الترتيب الداخلي يعرفه أبناء الكنيسة الشرقية بما هو أعمق من ابن رشد وتوما الاكويني. وغسان على رغم ظاهر قلمه ليس ابن ديكارت ولو لعب كعازف القانون على أوتار الجمال القائم في الثقافة الفرنسية في المعنى الحضاري. غسان تويني أرثوذكسي ثقافياً وإن لم أنكر إطلاقاً أنه كذلك على الصعيد الروحي وفي أعماق قلبه.
وأظن أن المفكرين من أبناء طائفته إلى أي تيار انتموا هم على هذا العمق ولذا استطاعوا أن يجيئوا فكرياً من قدمائنا وأن يستطيبوا العروبة بما هي متواصلة والمشرق الذي سبقها ولهذا سميت كنيستهم كنيسة أنطاكية وسائر المشرق والعروبة ضمن هذا المشرق يغطيها دون إلغائها ولا تغطيه.
في وقت من مراحل فكرنا لم ينحصر غسان في حدود ضمن هذا المشرق وتراثه ولو بقينا على الولاء الوطني واللبنانيون منا على هذا الولاء بعد أن تبين لنا أن لبنان غدا مصب الروافد التي تجري في هذا المشرق.
أبناء الجماعة الدينية التي ينتمي إليها لبنان لم يبقَ أحد ينكر عليهم لبنانيتهم فقد باتوا عليها في حوادث الـ 1958 وفي الحرب التي قادتها الفئات المختلفة السنة الـ(1975) ربما لكونهم فهموا أنها حرب للآخرين كما قال صاحبنا وصح ذلك جزئياً.
أنا أعرف غساناً في بيت أبيه وأمه التي كانت تذهلنا بتقواها وعلى كوني كنت في مطلع شبابي أقرأ ما كان يخطه قلم أبيه وكنت أفهم أن الرجل على التزامه العروبي كان مخلصاً للبنان ووزيراً فيه وسفيراً له.
ثم ذهب غسان إلى هارفرد التي كانت تزعم -وكتبت هذا على مدخلها- أن أبوابها يلجها الأبرار، هناك أبواب الفكر، ثم اضطرت وفاة جبران إلى أن يعود غسان إلى النهار ليتبع فيها شرعته ومنهاجه وأوتينا بها فكرة الحي والمحيي وطهارة نضاله وتنوع الكتابة في الصحيفة. ولكن غساناً لم يكن عندي صحافياً حسب الطرق المتبعة عندنا إذا كان مفكراً سياسياً تتلمذ على الفلسفة أولاً. غير أن الأدب السياسي لم يكن عنده لهواً إذ يمكن أن يتجند صاحبه لإبراز الحقيقة وهذه الحقيقة كان يخرجها صاحبنا من التراث الذي سبق أباه. فبقي ضمن الفكر السياسي فيلسوفاً وشاعراً بآن وعلى كونه شاعراً لم يسقط في الغواية ليؤدي شهادة للحق.
وأداءً للشهادة صار معلماً جامعياً حتى لا ينقطع تسليم الحق ووجب أن يلبس الحق حلة تجمع بين أبدية الفلسفة والظرف السياسي. ولكون الحكم بين الحين والآخر يرفض ازدواجية الحق والتأمل السياسي ذهب غسان تويني إلى السجن غير مرة.
أحياناً أحس أن غساناً عيل صبره وأزعجته الغباوة. ليس أنه فقد طراوته فهي ممدودة في حياته في هذا الحقل وذاك. لذلك هذا الذي يرى الكثيرون أنه عملاق لم يبتعد عن طفولته ولو حاول إخفاءه تحت حجب في وسائل تحذلق كتابي والتحذلق ليس خطيئة أن جعلته في خدمة البراءة.
كيف تبقى بريئاً في لبنان وفيه متحذلقون كثيرون يدورون حول مركزية الأنا أكانت هذه المركزية مالاً أو تسلطاً. لقد تجند الرجل على ضرب الاستكبار والحيلة. ولو استعمل أحياناً الحيلة اللفظية في افتتاحياته إلا أن هذه الوسيلة بقيت عنده وسيلة لخدمة الحق.
قلت عيل صبره بين الحين والآخر ولكنه لا يزال من أبناء الرجاء. ذلك أنه يرى الطاقات العظيمة المخزونة في هذا الوطن الصغير وفي كل بلاد العرب وفي أصقاع الدنيا التي يجوبها من سنوات ليستخلص منها العبر لأجل لبنان والعرب معاً.
وإذا جبت معه العالم فلكي ترتقي ويظل هو أستاذاً عظيماً ينقل إليك خير ما في كل تراث. وسيبقى كذلك لأنه هكذا جُبل وهكذا آمن.
وهذا يجعلني أعتقد -أطال الله بعمره- أنه سيبقى وفياً لما ورث لتمتلئ نفسه دائماً بالحق الذي للشهادة له ولدته أمه. أنه لم يسقط في ترهات هذا العالم ذلك لأنه مدين للنعمة التي نزلت عليه.