كان قدر غسان تويني أن يعيش في بلد التناقضات، والاغتيالات والحب ! وهو البلد الذي يوقض (ديك) النهار فيه العرب النائمين ويقدم لهم الحرية - المفقودة على امتداد هذا الوطن العربي الذي حكموه بالحديد والنار ردحاً من الزمن - مع قهوة الصباح.
ثمانون عاماً هي الفترة التي عاشها الصحافي والأديب القدير غسان تويني؛ محاطاً بأمل الوحدة العربية؛ مشغولاً بتضميد الجسد اللبناني الذي نشبت فيه أظافر الحاقدين من كل صوب.
خمسون عاماً و (نهاره) يشرق على الصحف النائمة الفاقدة للحرية ! خمسون عاماً و(ديك) النهار يصيح منبهاً أهل الدار بأن الوفاق خير السبل للنهوض بالبلدان المأزومة بالعصبيات والإنتماءات والمليشيات. وقت في وكانت صحف العالم العربي تركع تحت رجل الحاكم وتسبح بحمده كل صباح، كانت النهار تقارع ويلات الغضب وهي تمارس دورها التنويري في بسط روح المحبة والتواصل بين مختلف شعوب الأرض؛ ونبذ (التعنصر) والوقوف على أطلال الأمجاد الزائفة، والتلذذ بقتل الذات عبر استحضار الكربلائيات في تاريخنا العربي المريض.
وإذا كان غسان تويني قد أصابه الوطن في مقتل نتيجة الاختلافات؛ فقد أصابه موت ابنه (جبران) في مقتل آخر! لكنه تجاوز دائرة الموت وآثر ساحة الحياة؛ مصراً على الجلوس على طاولته القديمة - في مبنى النهار الفخم وسط بيروت - كما كان قبل خمسين عاماً، رافضاً السير في مواكب الانعزالية أوالتحليق مع غربان الطائفية في لبنان.
جزء من غسان (قضى نحبه) وهو جبران رحمه الله؛ وجزؤه الآخر (مع المنتظرين) الساعين من أجل غد أجمل للأمة العربية. وهو طائر الفينيق (غسان) يبسط جناحيه من وسط السخام والرماد محلقاً فوق رؤوس تطوحها الأمواج هنا وهناك بلا هدي؛ ويسكنها (الشبق) الانعزالي والطائفي الذي يقتل لبنان في اليوم ألف مرة.
إن تكريم الأستاذ غسان تويني؛ قبل أن تنتهي فترة الانتظار؛ هو تكريم لكل المناضلين والمثقفين والصحافيين المؤمنين بالعدالة والحرية والديموقراطية. تكريم لكل الذين تعذبوا وفقدوا أعزاءهم وصحتهم وعمرهم؛ بل وقاربوا على فقد الثقة بأنفسهم نتيجة القمع والتأفف من سماع قول الآخر.
وكما قال الرئيس السابق أمين الجميل في حق أستاذنا غسان : (لقد أعطانا أمثولة بتجاوز الذات ودفن الأحقاد؛ ورسالته يجب أن تكون انطلاقة لنا) ! فإننا نعتبر سيرة الأستاذ غسان مناراً لكل المخلصين لأوطانهم، الساعين نحو تبديد حلكة العصر بفجر جديد أو بضوء شمعة، المؤمنين بأدوارهم في الحياة لا هؤلاء الذين يعيشون عالة على رصيف التاريخ.
إن التعددية من ملامح المؤسسات وأنظمة الحكم التي تدوم، ولا تحصل فيها الانقلابات والاغتيالات! وعلى فكرة التعددية قامت مؤسسة النهار واشتد عودها بحنة ورؤية الأستاذ غسان تويني. ورغم مناخ الاغتيالات والتحزبات في لبنان، ظلت النهار كما هي وظل غسان تويني المرجعية الكبرى لكل أهل الصحافة والسياسة والفكر. والتعددية لا تقوم إلا على الجرأة وحرية الطرح؛ لذلك ظل (ديك) النهار شامخاً كل صباح بفحولته، في الوقت الذي تراجعت فيه (دجاجات) العديد من الصحف العربية التي ترهن عقلها عند (حاجب) الرقابة الحكومة، وتظل تستجديه كي يخرجها إلى المطبعة، بعد أن يقوم بتقليم أظافرها ويلوي لسانها عن قول الحق.
وللأسف؛ فإن أغلب الصحف العربية لم تستفد من تجربة (النهار) ولم تقرأ تاريخ النهار؛ لذلك ظلت تلك الصحف منحازة لنوازع ورغبات مالكيها أو الأنظمة التي تصرف عليها. وغابت عنها أهم ميزات الصحافة العاقلة وهي التعددية والجرأة. وعدت منشورات كتلك التي تخرجها وزارات الإعلام في طباعة فاخرة !
نقول لقد فجع الأستاذ غسان تويني في وطنه وفي ذاته ! لكنه مازال قائماً يدافع عن مبادئه وإلحاحات ذاته بأن يرى الوفاق يحل في وطنه؛ هو لم يرفض أو يعترض على وصول رئيس لبناني من خارج قوى الرابع من آذار.
إن وجود تويني مع هذا الطرف اللبناني أو ذاك لا يعني تخليه عن مبادئه الرئيسية؛ أو قطعه لوريده العربي وتصميمه - رغم الثمانين- على الدفاع عن حقوق الأمة العربية وكرامتها.
نحن نشكر المبادرة الجميلة لتكريم الأستاذ غسان تويني؛ النخلة الباسقة في لبنان، والمنارة الثقافية والوطنية التي يستهدي بنورها كل الضائعين في الصحاري والبحار العربية.