في يوم من أيام حزيران - 1995م، وفي مكتبهِ بجريدة (النهار) في الحمرا ببيروت، التقيت الأستاذ غسان تويني للمرّة الأولى وكنت مكلّفاً من مدير عام منظمة اليونسكو السابق فديريكو مايور بالتباحث معه لإصدار (كتاب في جريدة) واختيار بيروت عاصمة لانطلاقته.. كان لقاءً مثمراً له يعود الفضل في عقد البروتوكول الخاص بدولة المقر بين منظمة اليونسكو والحكومة اللبنانية بعد تدخل سريع وعملي قام به الأستاذ تويني مع الرئيس الراحل رفيق الحريري..
كانت هذه البداية وطيلة اثنتي عشر عاماً كنتُ خلالها مقيماً شبهَ دائم في بيروت ألتقي الأستاذ غسان بين مُناسبةٍ وأخرى حَدَثَ خلالها أَنْ افترق عملُنا معاً في إطار (كتاب في جريدة) ثم عُدنا لنعملَ من جديد وحَدَثَ أن زُلْزِلَتْ بيروت بأعاصيرَ وهزاتٍ من الداخل والخارج وما زالتْ تقفُ (على جفن الردى وهو نائمُ) وأنا في لقاءٍ متواصل عبرَ الصحيفة أو الأصدقاء المشتركين أو اللقاء المباشر مع الأستاذ غسان تويني أُفاجَأُ في كل مرّة باستطاعتِه على الإمساك بأطراف المشهد السياسي المعقد في لبنان وقدرته في نفس الوقت على التجدد والمواكبة عربياً وعالمياً والخروج من ردود الأفعال إلى احتواء الأفعال نصّاً وشخصاً وأداءً في الحياة اليومية..
إن الملمح الأكثر دلالةً في شخصيّة تويني بالنسبة لي هو الإحاطةُ الدائمة والسيطرةُ على المشاعر والأهواء ومقاومةُ الانتكاسات والهزّات الوطنية والشخصيّة - وما أكثرها حواليه - آخرها والكل يعلم فقدانه لجبران، ابنه الذي أراد له أن يكون دمَهُ الجديد الذي سيتواصل بعده حِبراً على الصفحات وروحاً في الحياة يحمل ملامحه واسمَه ولكنه بالرغم من عُمق وهول هذه المأساة وعندما التقيناه في مكتبه للعزاء، أخرجنا هو من إطار العزاء إلى اللقاء بكلمة هي الجرحُ والشفاءُ معاً وهي الدلالة على عمق وقوة شخصيّته عندما قال: (أستقبلكم في مكتب جبران حيث، على العكس مما جرت العادة أن يرث الابن أباه، فأنا اليوم أرثُ من ابني..).
غسان تويني قَلمٌ يجمع السياسيّ والدبلوماسي والمفكّر معاً, بلغة مُطعّمة بروح الشعر وكانَ اقترنَ بشاعرةٍ هي الأخرى رحلت بشكل مبكر ومأساوي وقد تَركَتْ بصماتِها بالتأكيد، زوجتُه الراحلة ناديا تويني، ليتميّزَ بأدائه وموهبته الصحفيّة وهو ما جعل من (النهار) مدرسةَ للصحافة اللبنانية والعربية خرجت منها أهم الصحف العربية المعروفة اليوم.
وغسان تويني قارئ ومتابع ليس فقط لشؤون الأحداث اليوميّة وقد أصبح اليوم نائباً ليرثَ أيضا مقعدَ الراحل جبران تويني في البرلمان اللبناني، بل لشؤون الفكر والفلسفة التي درسها والشعر والأدب ولن تفاجئه بجديد يُذكر في هذا الميدان لا يعرفه وهذا ما يندر بين رجال الصحافة اليوم.
إنه البعد الموسوعي الذي يشتمل على المعرفة بتعدّد مشاربها موسومٌ بعُشقِ العمل والانفتاح على الآخر بالإضافة إلى طول التجربة وتنوعها بين الصحافة والدبلوماسية والسياسة والعلاقات الدولية كلها تجعل من غسان تويني ما هو عليه اليوم، أي تلك العلامة الفارقة، الشخصيّة المفصليّة التي يمكن أن تختلف معها في رأي أو شأن ولكن لا أحدَ يختلفُ فيها.
بالأمس كنا معاً على منصة التكريم لإطلاقه العدد المؤوي ل(كتاب في جريدة) وعندما قلت في كلمتي بالمناسبة لتحيّة بيروت أن (بيروت ستبقى صفحة تتجددُ، لا تُطوى إنها صفحةُ الحياة..) همسَ غسان في أذني على المنصة قائلاً؛ (والحب).
هكذا هو غسان تويني عاشق الحياة ورجل الكلمة الراسخة، غسان المؤسس والعاشق.