يصح في غسان تويني القول إنه شخص فريد في زمن شحّت فيه الفرادة وحلت محلها الرتابة المضجرة. فما زال هذا الرجل الذي تجاوز الثمانين من العمر يكتنز حيوية الصحافي والسياسي والديبلوماسي والإنسان المنتج والمبادر.
ورث باكراً عن والده صحيفة (النهار) وشغل فيها موقع رئيس التحرير، وهو يناهز الثانية والعشرين، فأدخل فيها على طريقة كامل مروه، صاحب جريدة (الحياة)، الكثير من العصرنة، وحوّلها من مجرد جريدة إلى مؤسسة إعلامية متعددة الوظائف والمهام.
نظر غسان تويني إلى الصحافة على أنها أكثر من مهنة، فهي التزام بقضايا المجتمع والوطن والدولة والإنسان، وفي مقدمها الحرية.
حملته مهنته وشخصيته المتعددة المواهب على خوض غمار كل التجارب وفي كل الاتجاهات.
انتخب نائباً في العام 1951، وهو بالكاد يناهز الخامسة والعشرين من العمر، وهي السن القانونية للترشيح، وعُين وزيراً مرتين في العام 1970 و1975، وفاز في مطلع 2006 بالتزكية بالمقعد النيابي الذي شغر بوفاة ولده جبران.
واعتنق في كل هذه المراحل منهجية النقد والانتقاد المستدامين.
فهو المعارض الدائم، وإن أيَّد حيناً ذاك الحاكم أو شارك أحياناً في تلك الحكومة.
عرفته في العام 1970 وزيراً للتربية والفنون الجميلة في أول حكومة في عهد سليمان فرنجية، والتي أطلق عليها رئيسها صائب سلام شعار (حكومة الشباب) وحدد لها غسان تويني برنامجاً طموحاً وهو (الثورة من فوق)، غير أن حكام لبنان لم يفقهوا معنى (الثورة من فوق)، فساد لاحقاً العنف من تحت.
كان لا يهنأ له أن يختم نهاره الطويل كوزير يحمل تبعات وزارة متعبة إضافة إلى مهام سياسية كثيرة وكبيرة، من دون أن يمر على مكتبه في جريدة (النهار) ليشرف على صياغة الصفحة الأولى، أو على الأقل ليساهم في (المنشات).
ومن خلال مواكبتي له وهو يخوض معركة الانتخابات النيابية في العام 1972 عن المقعد الأرثوذوكسي في قضاء عالية، وتجربتي معه في إصدار (الملحق الإنمائي) لجريدة (النهار) في العام 1973، اكتشفت مدى شغفه بالفلسفة والشباب.
يهوى الحوار مع الناس وينتشي في الحوار مع الشباب، وبخاصة حين يأخذ الحوار منحى فلسفياً، فيصل إلى تخوم المتمتعين: متعة الحوار مع الشباب الذين يشكلون نقطة ضعفه، ومتعة التلاعب بالمفاهيم والأفكار والكلمات، كما يتلاعب بالعقول والعواطف والناس، ليستنبط من كل شخص أفضل ما عنده.
غير أن الصحافي والفيلسوف كانا يخفيان في ثناياهما الرجل السياسي المسكون بالسياسة والساكن فيها.
فهو يعشق السياسة في كل حالاتها وعلى كل مستوياتها، ابتعد عنها حتى الاعتكاف، أو خاض غمارها حتى الفشل في الانتخابات النيابية مثلاً، فهي تجذبه ولا يمكنه العيش معزل عنها.
في الستينيات من القرن الماضي أمست (النهار) صانعة الأحلاف والنواب والوزراء ورؤساء الجمهورية.
ولا أذكر أن زعيماً واحداً أو سياسياً واحداً لم يزر (النهار) ولو لمرة واحدة.
كانت بناية (النهار) في الحمراء تشهد على مدار الساعة تقاطر أهل السياسة والفكر من لبنانيين وفلسطينيين وعرب، وكان ريمون اده الزائر الدائم، يجلس في الطابق السادس حيث مكتب غسان تويني، ويتجول في كل الطوابق وبخاصة في طابق ميشال أبو جودة، وينتهي به المطاف مساءً إلى الطابق السفلي حيث يلاحق طبع تصريحاته والتأكد من خلوها من أي غلط، بما فيه الأغلاط اللغوية!.
صحيح أن غسان تويني كان يحب ريمون اده، لكنه كان مشدوداً إلى كميل شمعون ومعجباً (بالطريقة الشمعونية) في ممارسة السياسة.
وكان لجنوب لبنان في مسيرته المكان المميز، وقد ارتفع منسوب التزامه بقضية الجنوب بعد أن جمعته علاقة حميمة بالإمام موسى الصدر في مطلع السبعينيات، وأنا شاهد على عمق هذه العلاقة سواء في الاجتماعات التي تعقد في مركز الندوة اللبنانية برعاية ميشال الأسمر، أو في التحيز الذي كان يحتله الإمام في صفحات (النهار)، أو في الجولة إلى القرى الحدودية الجنوبية التي شاركت فيها غسان تويني ومجموعة من صحفيّ (النهار) بمعية موسى الصدر.
وما زالت أصداء صرخة غسان تويني (اتركوا وطني يعيش) تتردد في أرجاء الأمم المتحدة.
ودارت حرب لبنان دورتها ليصير غسان تويني في العام 1977 مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة طوال عهد الياس سركيس الذي عارضه بشدة، وفي ظل غريمه الأرثوذكسي فؤاد بطرس الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية، وقد لقي غسان تويني إنصافاً لدى أخصامه السياسيين أكثر من لدى أصدقائه.
وتزامن تسلم غسان تويني مهامه في الأمم المتحدة مع دخول لبنان بنداً دائماً على جدول أعمال مجلس الأمن الدولي منذ اجتياح إسرائيل لجزء من أراضيه عام 1978.
واستنفر غسان تويني كل قدراته وصداقاته إلى جانب صداقات لبنان، لإصدار في وقت قياسي القرار 425 الذي قضى بانسحاب الجيش الإسرائيلي على الفور من كل الأراضي اللبنانية المحتلة بلا قيد أو شرط.
وبرع في ممارسة الديبلوماسية على طريقة هنري كيسنجر فجمع بين البراغماتية والدهاء للوصول إلى مبتغاه، والقيام بخدمة وطنه خير قيام.
في الديبلوماسية، كما في الصحافة والسياسة، كان حضور غسان تويني طاغياً إلى درجة أن عبد الحليم خدام، كان في حينه المسؤول السوري الأول في الملف اللبناني، وما انفك يطالب رئيس الجمهورية الياس سركيس بإقالة ثلاثة من كبار المسؤولين اللبنانيين: وزير الخارجية فؤاد بطرس، ومدير المخابرات جوني عبده، وبالطبع غسان تويني الذي يندرج في خانة القلة من الصحافيين والسياسيين الذين لم يزوروا دمشق أبداً.
وانتقل غسان تويني مباشرة من الأمم المتحدة إلى القصر الجمهوري في عهد رئيس الجمهورية أمين الجميل الذي عينه في العام 1982 على رأس كبار مستشاريه، فكان بهذه الصفة من أهم صانعي قرارات العهد في نصفه الأول على الأقل، وسرعان ما عاد غسان تويني إلى حبيبته الأولى الصحافة، واستمر فيها إلى العام 1999 حين قرر مع بداية الألفية الثالثة في العام 2000 اعتزال إدارة مؤسسة (النهار) وتسليمها إلى ولده جبران.
وشاء القدر أن يشرب تويني كأس الحياة حتى الثمالة، فكما تسلم (النهار) من والده جبران في العام 1948 فإنه عاد فتسلمها ثانية من ولده جبران الذي استشهد في حادث تفجير إجرامي في نهاية العام 2005، وما فتئ غسان تويني يحمل على كاهله متاعب إنسان لا يستكين في وطن لا يستريح.
غريبة مسيرة هذا الرجل، فهو الشجرة والثمرة في آن...!
* رئيس حزب الكتائب اللبناني