من يعرف غسان تويني عن كثب يتردد كثيراً في الكتابة عنه، فالانطباعات عن سيرته ومسيرته متعددة كثيراً ما تكون تلقائية عفوية ولكنها باستمرار تتميز إما بالاعجاب والتقدير أو بالتشكيك فيما يرمي إليه حتى أحرف الكلمات في ما يريد إيصاله إلقاء أو كتابة. وحتى المشككون يشاركون المعجبين إعجابهم كونهم يعتبرون ما يختلفون مع غسان تويني فكراً أو سياسة أو موقفاً معيناً إنما يدركون صعوبة تفنيد بنود أو مواقف لمواقفه المعلنة. هذا التشكيك مصدره أن ما يقوله أو يسطره غسان تويني مبالغ في شفافيته. وفي وطننا العربي الذي يفتقد شفافية في الممارسات السياسية يعتبر أن وضوح الموقف المعلن لا مفر من انطوائه على معانٍ مغايرة للنص. فالمشككون يعتبرون أن تلقائية أو عفوية إعلان موقف بمثابة مناورة نادرة للالتفاف على ما يعتبرونه (حقائق) مطلقة أو ما يعتبرونه مواقف وسياسات يعتبرونها قناعات قاطعة وغير قابلة للنقد أو التعديل أو حتى منطلق للحوار.
لذا عندما يكون الموقف المعلن واضحاً فإنه يصبح عند المتزمتين مطعوناً بصدقيته وبالتالي عرضة للتشكيك بحرفيتها كون المتزمت هو بالضرورة منغلق يخشى الانفتاح على الفضاء الممكن وبالتالي يصبح تعمد الالتباس هو دليل الثبات وبالتالي يتحول المجتمع إلى مجموعات متقوقعة وبالتالي تصبح الشفافية ونقاء الانفتاح استحضاراً للتشكيك والتستير على مؤامرة ما!!
في هذه الأجواء التي سادت ظل غسان تويني يتعامل معها ببراءة العارف فاعتبرها حافزاً لجعل مؤسسة النهار - والصحيفة نفسها منبراً مميزاً لحوارات ولمقالات تباينت فيها الآراء دون الإجازة لطغيان موقف معين أو سياسة محددة برغم تركيز غسان تويني على رجحان اجتهادات لم تنسجم في كثير من محطات تاريخ لبنان والعرب المعاصر مع تيارات شعبية جارفة كانت (النهار) تعترف بأصالة دوافعها لكن مع تصميم على ردع اندفاعاتها حتى لا يؤول الانجراف إلى آمال مغلوطة. كانت هذه الفرامل التي بلورتها بعض المواقف (النهارية) مستندة إلى حد كبير على إحاطة غسان تويني بالتيارات المتصارعة عالمياً والاشتباكات داخل المنطقة العربية.
في هذا المضمار بقي الثابت في تعامل غسان تويني هو التحدي الصهيوني لا للأمة العربية فحسب بل على وجه التخصيص بما يمثله الصهاينة من نقيض للبنان الرسالة وساحة تفاعل الثقافات. صحيح أن سياسة احتواء المد الجماهيري الذي حصل في الخمسينات والستينات ومن ثم إلى منتصف السبعينات جعل منبر (النهار) وتوجهاتها يرجح التميز (الواقعي) على المد الشعبي الذي انفجر كبته بعد العديد من اخفاقات المشروعات الوطنية والقومية الواعدة. إلا أن هذه الفترة تميزت بانطلاقة غسان تويني في الفضاء العالمي عندما صار سفيراً للبنان المأزوم في الأمم المتحدة. وقد اتيح لي أن أنفذ إلى دقائق التزاماته عندما عملنا سوية حيث كان غسان تويني هو دولة لبنان في غياب الدولة في لبنان طيلة فترة طويلة من أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. كانت الأمم المتحدة المنظمة الدولية التي قننت حقوق الشعب الفلسطيني وجعلت هذه الحقوق تظهيراً واضحاً للقانون الدولي، وكان سفير لبنان غسان تويني مساهماً فذاً لإثراء شرعية حقوق العرب، وكان يستعمل مهنيته الصحافية المميزة وصداقاته الإعلامية المتنوعة والقادرة لتأمين حضوره الفاعل عند صناع القرار الدولي والمساهمين في انضاج التعاطف مع لبنان أثناء غزو إسرائيل للبنان التي والحق يقال تفوق غسان تويني على نفسه. لقد شاهدت غسان تويني في هذه الفترة العصيبة غاضباً على صفاقة وشراسة العدوان الإسرائيلي والهدوء المرافق لأعصابه عندما كان يحاول الإقناع الذي جعله المساهم الأول في صناعة القرارات الدولية التي مكنت المجموعة العربية في الأمم المتحدة من التصرف كفريق قومي لخدمة لبنان العربي.
اكتشفت في هذه الأثناء رغم أني إعتقدت أنني أعرفه جيداً أن غسان تويني كان شديد التقيد بالانضباط الوظيفي والتزامه بما يمليه الدستور وباحترامه للمؤسسات كونها في حقيقتها تمثل المرجعيات الضامنة لاستقرار واستقامة العمل العام كما الخاص. وأعطي في هذا الصدد مثالاً واحداً. المعروف أن غسان تويني في موقعه الصحافي والإعلامي كما الإقرار أنه في طليعة المفكرين العرب تبوأ أعلى المناصب المتاحة كنائب لرئيس مجلس النواب ونائب لرئيس مجلس الوزراء الخ... إلا أنه عندما صار سفيراً لبلاده في المنظمة الدولية أصر على أن لا يأخذ مبادرة إلا (بتوجيه وزير الخارجية ورئيس الجمهورية، وكان هذا الأخير الوزير فؤاد بطرس الذي كان خصماً ومنافساً سياسياً إلا أن هذه الخلفية جعلته أحياناً يبالغ التقيد ب(التعليمات برغم أن رئاسة الجمهورية والخارجية أعطياه صلاحيات وحق المبادرة في اتخاذ القرار أو بالأحرى سلماً بالصلاحيات نظراً إلى كونه كان الدولة في غياب الدولة.
هذه الظاهرة تشير إلى أن غسان تويني لم يكن يمتنع عن أي منصب كبير أو صغير إذا كانت خدماته تسد ثغرات أو تلبي حاجات. المقياس كيف يخدم وطنه. لم يكن عند غسان تويني (كبير) يردع وضوح موقفه أو (صغير) يحبذ تهميش اسهامه. من هذا المنظور اكتشف الناس محبوه والمشككون بدوافعه صلابة براءته وأناقة انفعالاته وسخاء عطاءاته ورسوخ ارتباطه بالأرض والوطن.
***
معرفتي بغسان تويني تعود إلى منتصف الأربعينات حيث كنت بنفس العمر مع صديقي فؤاد التويني. كان غسان أكبر منا سناً بأقل من عامين، لكن في ذلك الوقت كان هو (كبيرنا) كان غسان العائد من جامعة هارفرد لاستلام إدارة مؤسسة (النهار) بعد وفاة والده جبران مثقفاً طليعياً شديد الإعجاب بالدكتور شارل مالك وميشال شيحا وكنت يوم ذلك لا أزال طالباً في الجامعة الأميركية ومن تلاميذها - بالمعنيين الدراسي والسياسي - وكان هناك ما أعتبرناه منافسة بين مدرستي مالك وقسطنطين زريق - الأخير مدرسة المفكر القومي العربي المستنير، تباينت معتقداتنا بعد التحاقي بجامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة لدراسة الحقوق.
ظل هذا التباين قائماً إلى يوم تأسيس الجبهة الوطنية بزعامة كميل شمعون وكمال جنبلاط عام 1953، وفي مرحلة المعارضة ضد الرئيس بشارة الخوري كتب غسان تويني افتتاحية في (النهار) بعنوان (بدنا ناكل جيعانين)، مما ضاعف شعبيته وتعرف الناس إلى غسان سياسياً بين المفكرين مثل كمال جنبلاط مفكراً بين السياسيين. وكان مؤتمر دير القمر الذي آل إلى إزاحة الرئيس بشارة الخوري ومن ثم عهد شمعون. وبعد الحرب الأهلية عام 1958 جاء العهد الشهابي (برئاسة فؤاد شهاب) بقي التباين السياسي والعقائدي بيننا، لكن تنامى الاحترام لديّ لهذا النائب المستنير ومن ثم لاقترابه من الحزب التقدمي الاشتراكي وتحالفه معه.
***
تميزت فترة أواخر الخمسينات بافتراق سياسي بعد تأميم الرئيس عبد الناصر قناة السويس وحصل تباعد موقت على أثر الخلاف حول موضوع حياد لبنان مع الرئيس كمال جنبلاط ومن ثم عينت عام 1960 ممثل الجامعة العربية في الهند. ثم كان ابتعاداً عن لبنان وغسان تويني لسنوات عديدة إلى عام 1970 حيث تجددت العلاقة برغم عدم انقطاعها مطلقاً.
هنا تبدأ علاقتي مع مؤسسة (النهار) ونمو الصداقة الحميمة مع غسان تويني.
أقول الحميمة لأن انطباعاتي الأولى عنه أينعت في وجداني ونمت إلى إحاطة بالكثير من سخاء وعطاء، وبالمعنى الإبداعي لبراءته ولتجذر اقتناعاته بضرورة الانفتاح والحوار، وشجاعة تفاؤله وسط جاهلية الظلامية المتلطية بالدين وجهالة الانكفاء المتسترة بالطائفية...
***
كانت تجمعنا شراكة في المفاهيم السياسية لكن أيضاً كنا في مرات عديدة نختلف في تفسير معانيها ومَن أكثر تأهيلاً في تطبيقها. أذكر مثلاً أني كنت أميل إلى انتخاب الياس سركيس كامتداد لما سمي بالنهج الشهابي والذي تتضمن سياسة اجتماعية وإنمائية متقدمة بينما كان غسان تويني أكثر تصدياً للبعد المخابراتي اللبناني والمنطوي بالضرورة على ممارسات قمعية واعتداءات على الممارسات الديموقراطية. وكان غسان تويني من أبرز الذين اندفعوا آنئذ في نهاية العهد الشهابي. وعندما استلمت المعارضة الحكم كان غسان تويني عضواً في الحكومة، ولكن هذا لم يحل دون تصديه لانتهاكات وبشكل علني مما أدى إلى سجنه فيما بعد. برهن غسان صدق التزامه لأولية الحريات المدنية وحقوق الإنسان... وهذا ما لا يزال يميز تعاطيه في الشأن العام وما مكنه في السنوات التالية من أن يجعل من مؤسسة (النهار) بؤرة استقطاب لكثير من القادة والمفكرين وتوفير منبر للتعبير عن مواقف المقاومة الفلسطينية وفي العديد من قضاياهم وتمكين إعلامهم من دفع الرأي العام إلى احتضان مسيرة نضالاتهم. كان غسان تويني يدفع بمحاوري (النهار) أن يساهموا في جعل السلوك الفلسطيني أكثر وعياً للإطار اللبناني الذي يعملون منه حتى تتمكن القضية الفلسطينية من أن تكون أكثر تفهماً وأكثر امتثالاً لما يستطيع لبنان توفيره من طاقات فكرية وإعلامية لإيصال أهداف المقاومة لجعلها قضية مرشحة - كما صارت - قضية وجدانية على مستوى عالمي. هكذا تلقف السفير تويني أثناء مهمته في الأمم المتحدة ما ساهم في زرعه من خلال منبر (النهار) والنقد البناء لبعض محاوري (النهار) عام 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان.
طيلة هذه المرحلة المفصلية في تاريخ لبنان وتاريخ النضال الفلسطيني ساهمت الصحافة اللبنانية ومؤسسات الإعلام الفلسطيني كما مدرسة غسان تويني في تأمين دفء التعاطف وصدق التجاوب لوضوح حقوق شعب فلسطين.
***
أفضل ما يستحضره غسان تويني ليس رغبته بالاتفاق معه. صحيح يحاول الإقناع... وكثيراً ما يقنع لكن تجربة الاختلاف معه هي بنفس المستوى مع الاتفاق معه. في أي نقاش معه تجد نفسك أمام تحدٍ يجعلك تثري من حيث لا تدري ومن صقل موقف مخالف فتجد أن المواقف يمكن أن تتنافس وتتعايش مما يمتن الخطاب ويجعل قمع مفاعيله من سلطة شمولية بمنتهى الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. لذا الانفتاح على الآخر، جعل غسان يعطي أولوية لمجابهة تسييس أجهزة المخابرات في كل مكان لأن تسييس الجيوش يحرمها من دورها في حماية الأوطان وعاجزة بحكم مهنتها ممارسة الحاكمية. ولعل تجارب الانقلابات العسكرية حولت مفهوم (السلطة) إلى تسلط واستئثار بالقرار وإجهاض المساهمة في تقرير المصائر وقمع الحريات، هذا من شأنه أن يفسر الريبة من شمولية العديد من الأنظمة كما أنه يسعى التفريق الواضح بين أنظمة يرفض صلاحيتها والحض على تكثيف محاولات التفاهم بين الشعوب في المنطقة العربية أولاً وعلى المستوى العالمي من خلال اسهاماته في ندوات دولية عن حوارات الثقافات وإصراره على وحدة القيم للأديان خاصة الإسلام والمسيحية.
***
هذه المواصفات لفكر وسلوك وأنماط الحوار وعمق الأصالة في جذوره الروحية والإيمانية هي التي تفسر كيف يتعايش مع معاناته ويستدخل مآسيه ما فسر كلمته الملهمة عند استشهاد جبران... وقبلها غياب مبكر لناديا ونايلة ومكرم، وكيف جعل من فاجعته دافعاً ليضيء ويلهم مسيرة السلام الأهلي في لبنانه والعدالة لفلسطين المعذبة، وكيف يساهم في أن تبقى بيروت موحدة كي تبقى قدس العرب لريثما يتم تحريرها.
***
عندما يكرس غسان تويني ثنائية دمعة الحزن مع ابتسامة الأمل هذا اختزال لما يعنيه غسان تويني لبنانياً وعربياً وعالمياً. هو من يوحي أن الحزن يجب أن يكون محرضاً لاستعادة الأمل... في تزاوج الدمعة والابتسامة، يوفر للبنان حرمان شعبه الاستقالة منه... كذلك الأمر بالنسبة إلى فلسطين، إلى العراق إلى جميع العرب في أوضاعهم الراهنة، مهمة غسان تويني تؤكد ممنوع الاستقالة... في هذه اللحظة من تاريخ أمتنا العربية التعريف على هذا الإنسان الكبير هو إسهام مشكور من مؤسسة الجزيرة الغراء لعل ما يتضمنه من تقويم لمفكر أعطى الثقافة العربية بسخاء يكون بمثابة تمهيد وتحريص لنهضة واعدة وأن يكون هذا الكتاب عامل تواصل بين الأجيال... علماً أن نجاعة ما نتوقعه هو أن لا نستقيل من احتمالات الوحدة والتنمية واستمرار الإسهام العربي في الحضارة الإنسانية.
* أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية بواشنطن - سفير ومسؤول سابق في الأمم المتحدة