الحديث عن غسان تويني بمقدار ما هو سهل فهو دقيق، سهل لأن الكثير يمكن أن يقال فيه وعنه بعد أن جمع في شخصه الصحفي والسياسي والدبلوماسي والمفكر. وكان ناجحاً في جميع هذه الحقول. نشاطه في استمرار لا يفتر، وكلمته عالية، عميقة لا تغيب، عاشق حرية وديمقراطية مجاهد عنيد في سبيلهما وفي سبيل الإبداع، كارهاً للحكم التسلطي أينما كان.
أما مكمن الدقة فهي الخشية التي تلازم المتحدث عنه من ألا يوفيه كامل حقه ولا سيما وأنه يجمع بين العلم والمعرفة من جهة واللباقة والكياسة في التعامل والإنجاز من جهة أخرى.
أذكر كما الكثيرون، أنه دخل السجن أكثر من مرة من أجل كلمة وموقف لم يتراجع عنهما وأذكر كما الكثيرون يوم كان أحد أعضاء الجبهة اللبنانية التي ضغطت على الرئيس بشارة الخوري فاختصر المدة من ولايته الممدة واستقال.
أذكر كما الكثيرون أن (النهار) جريدته الذائعة الصيت لبنانياً وعربياً كانت الصوت الصارخ العالي لسان المعارضة الناطق. ففي آخر عهد الرئيس شارل حلو وصل السياسي المعارض سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة بأكثرية صوت واحد.
على أني سأختصر حديثي عنه متناولاً مرحلة تعاوننا معاً أواخر السبعينيات هو رئيساً لبعثة لبنان الدائمة إلى الأمم المتحدة. وأنا وزيراً لخارجية لبنان ورئيساً لدبلوماسيته. وهنا أتذكر ضاحكاً خصومتنا السياسية خلال الستينيات، خصومة وضعناها نحن الاثنين ولو متأخرين طي النسيان وكأنها لم تكن. وكان تعاوننا إلى آخر الحدود ولولا هذا التعاون ربما لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه في حينه.
يوم اقترحه الرئيس إلياس سركيس سفيراً من خارج الملاك كان لبنان يمر بمرحلة دقيقة للغاية وكنا بحاجة إلى من يمثل لبنان لدى المجتمع الدولي خير تمثيل. ولأني كنت أقدر مزايا الأستاذ غسان وقدرته كمحاور عقلاني عنيد، ضالع في علم التاريخ والسياسة، تلميذاً لشارل مالك مخلصاً لوطنه، وافقت فوراً على هذا الاقتراح على أن يتولى تمثيل لبنان لدى الأمم المتحدة.
وقد استمرت الاتصالات فيما بيننا بانتظام أيقنت من خلالها كم كانت رؤيتنا للأمور واحدة مع إدراكنا الكامل للصعوبات والعراقيل، وفي وعينا أن السياسة ولا سيما الدبلوماسية بقدر ما هي علم وإدراك وحنكة، هي فن الممكن تحقيقاً للهدف. ثم هناك أزمتنا مع إسرائيل بسبب احتلالها لأرضنا لاحقاً وهي أزمة متلازمة مع أزمة وجود المقاومة الفلسطينية على أرضنا وحدنا من دون سائر الدول العربية.
وبات همنا الشاغل استصدار قرار من مجلس الأمن يقضي بجلائها بعد غزو 1978م بالرغم من كل العراقيل ومنها انقسامات مجتمعنا اللبناني طائفياً وسياسياً إذ بات اللبنانيون، وبأكثريتهم لا ينظرون إلى الأمور بشمولية وتجرد، بل كلاً من جانبه فقط: فريق لا يرى إلا مصلحة لبنان ومصلحة جماعته وحسب بصرف النظر عما قد يصيب الآخر، وفريق منحاز إلى المقاومة بصرف النظر عما قد يرتد من ويلات على الوطن بسبب هذه المقاومة.
فكنت مع غسان متفقين على أنه يقتضي علينا التعامل مع هذا الواقع بتروٍ دون أن نبدو وكأننا منحازون إلى أي طرف، بل على العكس يجب أن نأخذ في الاعتبار مصلحة الوطن بالنتيجة. أي كان علينا إطفاء الحريق على أية حال والوصول إلى حل، إذا لم يكن الأمثل، فعلى الأقل، لا أقل، من أن يكون الأقل سوءاً.
ومن أجل ذلك كان لا بد من أن نكون محافظين على علاقة جيدة مع مختلف الدول، ولا سيما تلك المعنية والمؤثرة، في مجلس الأمن آخذين بعين الاعتبار تشابك المصالح بين هذه الدول، فبعضها وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي كان منحازاً إلى جانب القضية الفلسطينية، فيما كان بعضها وعلى رأسها الولايات المتحدة منحازاً إلى إسرائيل، وإذا كنا على توافق في وجهات النظر أنا وغسان على مقولة أن الدول ليست مؤسسات خيرية، وبأن ليس من عداوات دائمة بينها، ولا صداقات دائمة بل هناك مصالح دائمة،
فبالتالي كان علينا التعامل مع هذا الواقع بكثير من الدقة والمرونة من أجل إقناع هذه الدول بأحقية مطلبنا وبعدم تعارض هذا المطلب مع أي من مصالحها وأهدافها. وبالنتيجة وبفضل التعاون الكامل فيما بيني وبين غسان الذي كان أميناً صلباً قادراً على الإقناع، حجتنا أن إحقاق السلام في لبنان، ما هو إلا خطوة لإحقاقه في كامل المنطقة توصلنا لاستصدار القرار رقم (425) وهو يقضي بجلاء إسرائيل عن أرضنا، وكذلك المقاومة الفلسطينية بسلاحها.
وكان نجاحاً مميزاً ربما لأول مرة يقضي على جيش بالانسحاب من أرض احتلها دون مناقشة أو مفاوضة مع المعتدي وفي ظل معاهدة الهدنة الموقعة مع دولته في الأربعينيات، مع بقائنا على اعتبارها دولة عدوة.
ولا أنسى أنه كان يقتضينا العمل على الجلاء الفلسطيني وسط احتجاج، وأقولها بكل أسف، بعض الفرقاء اللبنانيين، وقد وفق لبنان بالنتيجة إلى الجلاءين معاً...
وقد برهن غسان في تلك المرحلة، على أنه محاور بارع لا تفتر له همة يلازمه شعور بالتفاؤل وأعني ذلك التفاؤل العقلاني الذي مرده ثقة بالنفس وإيماناً بالله وبالوطن من غير أن يتعامى عن الواقع ومن أن يرى السواد حيث السواد، والبياض حيث البياض..
لا أزال أواظب على قراءة افتتاحيته في جريدة النهار، مستمعاً إليه كلما أطل على إحدى شاشاتنا، بارتياح كبير. كم نحن بحاجة إلى كثيرين من أمثاله...
*نائب رئيس حكومة ووزير خارجية سابق - بيروت