كانت إدارة أو رئاسة المرور بالمنطقة الشرقية جزءا من مديرية شرطة الظهران وكان العقيد محمد أحمد فقي الذي يرأس المرور أديبا شاعرا ينشر مساهماته في بعض الصحف وكنت أقرأ له وأواصل زيارته كلما حضرت إلى الدمام خصوصاً بعد أن توقفت مجلة الخليج العربي التي أصدرتها بالأحساء عام 1376هـ وعندما زرته لهذه المرة سألني عن المجلة وسبب توقفها فأخبرته بأن السبب هو شح المادة فقال: ما رأيك في أن نعيد إصدارها أنا وأنت في الخبر جريدة أسبوعية سوف أتولى تمويلها بشرط أن أكون رئيساً للتحرير فقلت له: لكنك موظف وعسكري في نفس الوقت فقال: سبق لي أن تقدمت بطلب الاستيداع من الوظيفة لمدة سنة لأجرب حظي في الأعمال الحرة أن نجحت وإلا عدت إلى وظيفتي وهذه فرصة للعمل معك لمواصلة رسالتنا الإصلاحية من خلال جريدة تستطيع التحرك على صفحاتها كيفما نشاء فاتفقت معه على ذلك، ثم رفعنا برقية إلى المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر بجدة بتحويل المجلة (الخليج العربي) إلى جريدة أسبوعية تصدر في (الخبر) وعندما جاءت الموافقة استأجرنا شقة من عمائر الكعكي على شارع الملك خالد زاوية على شارع الظهران قمنا بتأثيثها لتكون مكتب للجريدة (الإدارة والتحرير)، وكان لمركزه الأستاذ محمد وعلاقاته الطيبة كبير الأثر في سرعة تأسيس تلك الإدارة المتواضعة فرأينا عدم الاستعانة بأي شخص لأن موارد الجريدة لا تحتمل المزيد من الصرف، وبعد ذلك ذهبت إلى مطابع الخط التي أسسها الأستاذ عبد الله الملحوق بالدمام، وتولى إدارتها إضافة إلى إدارة جريدة أخبار الظهران أستاذنا الشيخ عبد الكريم الجهيمان وكانت الجريدة قد توقفت فأسندت إدارة المطبعة إلى الأستاذ عبد العزيز العيسى الذي وافق على طباعة الجريدة مؤقتاً فصدرت في 8 صفحات حجم 54 ×27 وعلى رأسها رئيس التحرير محمد أحمد فقي وصاحب الامتياز والمدير العام عبد الله أحمد الشباط قيمة الاشتراك 12 ريالاً في السنة وقيمة النسخة 1 ريال.
وقد استمرت طباعة الجريدة في مطابع الخط شهرين فقط حيث اعتذر الأستاذ عبد العزيز العيسى بكثرة التزام المطبعة بأعمال بعض الإدارات الحكومية فكان علي أن أذهب لتدبر موضوع الطباعة في الرياض وكانت فرصة لي أن أتعرف على شيخنا الأستاذ الجليل حمد بن محمد الجاسر مؤسس ومدير مطابع الرياض وصاحب مجلة اليمامة الشهرية وقد رحب وأبدى استعداد المطبعة لطبع الجريدة دون أي اهتمام بالنواحي المادية وفي أحد لقاءاتي بالشيخ حمد التقيت بالدكتور حمود عبد العزيز البدر وكان وقتها يدرس بكلية الإدارة قسم الإعلام بجامعة الملك سعود فسألته عما إذا كان لديه استعداد للإشراف على مكتب الخبر في الرياض والوقوف على طباعتها وشحنها إلى الدمام وقد أبدى استعداده لذلك فاتفقت معه على ذلك فقام باستئجار مكتب في شارع البطحاء وهو عبارة عن غرفة فقط بدون مرافق ليس بها من الأثاث سوى طاولة وكرسي وهاتف وخلال فترة عمل الأستاذ محمد في الجريدة تعرفت بعدد من الشخصيات التي تستحق الاحترام والتقدير وفي مقدمتهم اللواء حسن قناديلي وكيل الأمن بالمنطقة الشرقية ومحمد نور رحيمي مدير الجمارك ومحمد باخشب باشا والأديب سيف الدين عاشور والأديب عبد العزيز مؤمنة من العلاقات العامة بشركة أرامكو وعلي حسن قناديلي من تلفزيون أرامكو والأستاذ الشاعر يحيى حسن توفيق الذي كان يدير مكتب السادة حسين علي رضا بالخبر والعميد علي حسن صيرفي مدير شرطة الظهران.
وغالباً ما كان بعض الاخوة المشار إليهم يجتمعون لدى الأستاذ محمد فقي ولدى الأستاذ عبد العزيز موضة وأحياناً بمنزل علي الصيرفي مدير شرطة الظهران وفي هذه الجلسات يتناولون الأحاديث الودية ويتطارحون الأشعار ويبحثون في القضايا الأدبية البعيدة عن هموم الوظائف وقد تفتقت قريحة الأستاذ محمد فقي رئيس تحرير جريدة الخليج العربي في عام 1377هـ عن موهبة شعرية ممتازة شهد بها له كبار الأدباء أمثال الشاعر الكبير محمد حسن فقي الذي قال في تقربطة لأول مجموعة شعرية (أصداف ولآلي) لشاعرنا أبي أحمد: ولد الأستاذ محمد أحمد فقي بمكة يتيم الأبوين فتولته دار الأيتام وكان أثناء مرحلة من التعليم الابتدائي يحضر حلقات الدروس المدينة بالمسجد الحرام وها هو يتحدث عن علاقته بالأدب والشعر والوظيفة. وأذكر، وأنا في السادسة عشرة، أن أمنيتي كانت تنحصر في أن أكون رجل دين، وبعبارة أخرى، عالم دين وفقه أجلس في المسجد الحرام فادرس مثل أولئك العلماء الذين كنت أجلس إليهم واستمع لهم وآخذ عنهم، وهذا جل ما كنت أفكر فيه، ولعل ذلك يعود إلى جلوسي في حلقات العلماء والمدرسين في المسجد الحرام أمثال العلماء الأفاضل: الشيخ أبو السمح، والشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ الشنقيطي، والسيد علوي مالكي، رحمهم الله جميعاً رحمات واسعة، وغيرهم من أجل العلماء الذين تلقيت عنهم علوماً دينية، وعربية أجدت علي كثيراً، وكانت من ذخائري التي ما زالت عالقة في الذهن، حاضرة في الذاكرة، ماثلة في العقل.
لكن أمنيتي لم تتحقق لأسباب عديدة لست في حاجة إلى ذكرها إذ لا تهم قارئي في شيء، ووجدت نفسي منساقة إلى مجال آخر.. هو مجال الأدب، وكانت حصيلتي منه في دار الأيتام، حيث كنت أدرس، حصيلة ضئيلة إذا ما قورنت باتساع مجال الأدب، ورحابه الواسعة، وعلومه المختلفة المرتبطة قريباً أو بعيداً.. وبدأت أحفظ أشعار العرب في الجاهلية والإسلام وحتى المعاصرين من شعراء الحجاز آنذاك والشعراء العرب المشهورين في الأقطار العربية الشقيقة، ومع الأيام وجدت نفسي قد علقت تماماً بالأدب وشغفت به حباً، ولم تكن المدرسة لتؤهل إنساناً تأهيلاً يسمح له بنظم الشعر مهما كان مستواه، وكانت أيامنا تلك أيام فقر وادقاع وعوز فاضطررت، أو كان علي أن ألتحق بمدرسة الشرطة مثلما فعل معظم خريجي دار الأيتام بمكة، ولم تكن الدراسة في هذه المدرسة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى كلية، إلا دراسة شرطية محضة، لكنني خلال هذه الفترة كنت أتحين الفرصة فاقتطع من راتبي جزءاً لاشتري كتباً، وكنت نهماً في القراءة، شرهاً في المطالعة، حريصاً على شراء الكتب وقراءتها بشغف زائد.
أما عن شاعريته ونبوغه الأدبي فقد تحدث الأستاذ والشاعر الكبير محمد حسن فقي فقال:
والحق أنني كنت أرى في أخي محمد منذ يفاعة طبعاً أدبياً يكاد ينم عن نفسه بتطلعاته وانكبابه على القراءة ولا سيما القراءة الأدبية.. ومحاولة الكتابة ونظم الشعر.. ثم محاولة إطلاعي على ما يكتبه على استحياء وتردد. وكنت دائماً أشجعه وأوجهه وأرى فيه مشروع شاعر مستقبل وشب محمد.. وشب حب الشعر معه قراءة ونظماً.. كان في أول أمره ككل برعم كزهرة تحاول الافلات من كمامها لتواجه العالم بنضرة وعبير.. حتى شاء الله لهذه الزهرة أن تطل برأسها إلى الخارج وتستنشق الهواء الطلق.
وبكل الأحوال فإن محمد الشاعر الشادي هو في بداية تكوينه الشعري، وهو يقطع منه اليوم أولى مراحله، وهو يعترف بهذا فيما قاله كتصدير لديوانه هذا من أبيات قلائل.. وفي تسمية الديوان فلقد أطلق عليه اسم أصداف ولآلئ، فقدم الأصداف على اللآلئ باعتبار البداية في رأيه أصدافاً أكثر منها لآلئ حتى يأتي الزمن القريب فتتكاثر اللآلئ وتقل الأصداف حتى تختفي إن شاء الله.
وعن شاعريته تحدث الأستاذ محمد دفتر دار المدني في دراسة مجموعته الشعرية (أصداف ولآلئ) قال فيها: والذي أتبينه أنا حين أخذت أمعن نظري في ديوانه هنا وهنا، توهج الإشراق الفني، وصفاء المعاني القريبة وجمال الأخذ والاعطاء، وصحة العبارة وروعة الإعجاب.
لأن الأصداف التي أشار إليها والتي منها ديوانه هي في الجملة محارات ليواقيت اللؤلؤ الرطب الصافي.. وأنا لا أعجب إذا تبينت في شعره هذه الظرافة والسهولة بحكم عكوفي على دراسته لأمرين الأول: أنه نشأ في بيت من بيوتات مكة المكرمة.
بيت جل أهله أهل بيان ولسن كبيت زهير بن أبي سلمى، وإذا قلنا إن زهيراً أفاد كثيراً من خاله بشامة بن الغدير الغطفاني، فإن شاعرنا العصامي الطلعة السيد محمد فقي أفاد كثيرا من ابن عمه شاعر السعودية الكبير السيد محمد حسن فقي.
وهو الذي يقول عنه على بصيرة وعلم وأمانة: (أنه الشاعر الكبير حسن فقي وناهيك به من ناقد عبقري وشاعر لوذعي، خضع له الشعر خضوع العبد لسيده...!
فسبر أغواره، وأدرك أسراره وأبان سمينه وغثه، وجيده ورثه...
الثاني: أنه لازم فحول العلماء المدرسين في المسجد الحرام الشيخ أبي السمح.
والشيخ عبدالرزاق حمزة، الشيخ الشنقيطي، والسيد علوي مالكي..
ولا ريب أن هذه الملازمة اللاهفة لدروسهم، أوسعته ثقافة دينية وعربية، لأنه كان يتمنى أن يكون شيخاً مثلهم ولكن لما حالت الحوائل دونها ألتفت إلى كتب الأدب، ودواوين الشعراء الحديثة والقديمة يطالع ويستظهر حتى وصل إلى ما وصل إليه وكان ثمار نشاطه ودراسته وحصاد أيامه ولياليه.
عندما التحق بمدرسة الشرطة لم يكن يرى في واجهتها إلا الوظيفة ببدلتها الرسمية وسلطاتها، وموقعها في المجتمع فلما تخرج واستلم الوظيفة تفتحت أمامه أبواب لم يكن يراها من شدة الضبط والرابط والانضباط الذي لا إهمال معه أو نسيان ولا تقبل فيه معذرة لمعتذر سار شوطة العسكري متدرجاً في الرتب العسكرية حتى أمضى حوالي ربع قرن فلما فتش حصلته لم يجد سوى سنين عمره المهدرة فوصف مشاعره في قصيدة جاء فيها:
توظفت أبغي مراقي العلا
وكنت جهولاً عديم الفهم
ولم أدر أني إلى شقوة
رميت بنفسي، وفي المدلهم
وأني ضللت الطريق السوى
فكان الضياع، وكان الندم
سنون تقضت ولما تزل
جراحي تدمى ولم تلتئم
وفي النفس يعصف وأرى الأسى
ويلهب روحي ويل السأم
وضاعت حياتي ضياع المنى
وعادت هباءً.. وصارت حطم
وولى الشباب، وما في الشباب
وكانت علي البلاء العمم
وفي محاولة للخروج من الوظيفة كان يبعث لمرجعه خطابات طلب إعفاءه من منصبه فلا يجد له أذناً صاغية مما حدا به أن يبعث لمدير الأمن العام آنذاك (طلعت وفا) بقصيدة يشكو فيها من وضعه الوظيفي ويطلب الإعفاء إلا أن ذلك الطلب كان مصيره الإهمال وقد جاء في القصيدة:
عثرت وقد كان العثار (مصيبة)
وجرحاً ينز الدم منه ويقطر
فأقدمت لا أدري بما أنا فاعل
على (الأمن) لا ألوي، ولا أتدبر
وقد يحمد التفكير في الأمر عاقل
ويندم من يسعى ولا يتفكر
وأني لمثلي أن يفكر في غد
ويدرك إدراك الرجال، ويبصر؟
أبي لي حظ أسود الوجه كالح
سوى عيشة ضنكى، وحزن يفطر
فضيعت من عمري سنيناً عزيزة
على، فلم أظفر بما كنت أفكر
وقد ختم هذه القصيدة بهذه الأبيات التي جسد فيها معاناته ومحاولة الفكاك من أثر الوظيفة.
أطلعت هذه شكوتي، واستقالتي
ورغبة نفس في الخلاص تفكر
فما كنت أرجو أن أكون موظفاً
ولا ضابطاً أعلى يحييه عسكر
ولا كان لي إرب لديكم، وحاجة
لأصبح شرطياً فأنهي، وآمر
مللت حياتي في الوظيفة، إنها
تكبل أحرار الرجال، وتأسر
أن الأستاذ الأديب الشاعر محمد أحمد فقي له إسهامات أدبية كان بنشرها في مجلة الأشعاع وجريدة أخبار الظهران وما نشر لاحقاً في جريدة الخليج العربي وقد صدر له عدد من الكتب الأدبية أشرت إليها في كتابي أدباء وأديبات من الخليج العربي كما أن له عدد الكتب والبحوث التي لم يهمله الأجل لاتهامها ما عدا مجموعة الشعرية (أصداف ولآلئ) التي طبعها في مطابع الشرق عام 1404هـ وقد توفي في العقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري أرجو الله له الرحمة والغفران.