إعداد - عبدالحفيظ الشمري:
المدن تولد مثلنا، وتشيخ.. لكن القرى المنبت، هي التي تزرع في تخوم الأرض بذور المدن وأهلها، فكم من قرية نافحت عن مجد بقائها البسيط ونفت أهلها إلى (الأحياء الجديدة) الهجر المتعصرنة المدن التي تضخ فيها المادة روح الحياة المختلفة.
(غسلة) القرية، المكان، المنبت لواحد ممن خدموا تجربتنا الثقافية والأدبية والقصصية.. فابن (غسلة) عبد الكريم الجهيمان ظل وفياً لقريته وإن هجرها إلى شقراء، ويمم ركاب نأيه صوب الرياض ومكة والطائف والظهران.. لكنه عاد إليها محملاً بألق الشوق إلى تلك المنابت التي أخصبت فيها تجربته الرائدة، فبات رائداً حقيقياً للحركة الثقافية والأدبية في بلادنا.
عبد الكريم الجهيمان ظل يذكر (غسلة) على وجه التحديد، ويعيد على مسامع قرائه ومريديه وتلاميذه سيرة عفوية عابرة عن ماهية القرى الوادعة.. تلك التي تضوع طيب الود كروضة من رياض (ذات غسل) حيث يقول فيها:
يا حبذا ذات غسل في حلاوتها
وحبذا خطوات في ضواحيها
وجلسة بالنقافي معشر نجب
أشهى إلي من الدنيا وما فيها
فالأديب الرائد الجهيمان لا يزال يترنم طرباً بمنابته الأولى.. تلك التي لا تزال بكل تأكيد آسرة للبه، أو على أقل تقدير معين ذكرى جميلة تسكن الوجدان.
فرغم أن الجهيمان هجر غسلة إلى شقراء ومنها إلى مدن عديدة.. بل نراه وقد طاف بأقطار كثيرة إلا أنه لم يتخل عن حبه القديم لقريته القابعة في لجج العاطفة دائماً.
الشعر و(غسلة) والأدب ثلاثية مهمة في حياة الرائد عبد الكريم الجهيمان، وإن حاول أن يتشاغل عنها هذه الأيام إلا أنه ومع كل استعراض لسيرته وعطائه نجد أن (غسلة) هي البداية وشقراء هي المنطلق إلى كل ما من شأنه مواصلة البحث والتأليف والقراءة والتميز في مجالات شتى.
لم ينس الجهيمان (غسلة) كما لم ينس كتبه وذخائره الأدبية.. بل ظل القروي الذي يجالس في وحدته كتابه الأثير لاسيما وأنه فصل فيما جاء في حب مراتع الصبي.
لم تكن القرية لدى الجهيمان في قبر الذكريات، ولم تكن طارئة في حديث، أو عابرة في مشهد حياتي ما، إنما ظلت غسلة على وجه التحديد ملمح مهماً يستهل فيه الأديب كل حكاياته، لتكون القرية هي بوابة البوح، وفاصلة القول الأولى.
فللقرية لديه لون الغمام الذي لم يعد يرى، وصوت الفرح الذي يداوي القلب من لواعج الزمن.. فغسلة شأنها شأن الأحلام الجميلة في الوجدان.. بل القرى جميعها ذات بريق ناصع لحظة أن تستعيد الحياة وهجها الذي يخبو، ومعالمها التي تهرأ حدود الإمحاء.
لا يزال الأديب الجهيمان يأنس في الحديث عن القرى إذ يرى أنها المنابت الأولى.. تلك التي غرست فيها حياته وتفاصيل أيامه وكونت مع الوقت شخصيته وصنعت سجيته التي انطبعت بحب البساطة، والتواضع، ولين الجانب حتى بات الجهيمان والقرية صنوان لبعضهما، فهو الفخور بريفيته، فالمتأمل لحياته القروية يدرك أن القرية (غسلة) هي من ألهمته أو دفعت به لأن يكون شغوفاً في الرحيل والأسفار، وقراءة التاريخ منذ الأزمان.
القرية في وجدان الأديب الجهيمان تظل يقظة متألقة، فلم تكن في يوم ما مجرد ذكرى عابرة شأنها شأن أي قرية في ذواكر أهلها، إنما تظل هي الملهمة، وهي الأفق الذي يرقب فيه تحولات الزمن، ودورة الحياة.. المدن (شقراء، الرياض، مكة المكرمة، الطائف، الدمام، الظهران، القصيم) مدن ومناطق أخرى مر بها الجهيمان لكنها لم تكن بذلك المرور العابر إنما تنقلات بين محطات كثيرة استثمرها الأديب الجهيمان وصنع من خلالها تجربة ثرية، ومؤثرة في مشروعنا الأدبي والثقافي على مدى ثمانية عقود ونيف من تجربته الرائدة.