بداية الشاعر سليمان العيسى معروفة إلى حد بعيد:
أولاً، نشأته في القرية، وتكوينه لغوياً وأدبياً بل وقومياً أيضاً - على يد والده الشيخ أحمد العيسى، وفي كُتّابه:
يقول سليمان:
(وأنــا في الـــدار تعلَّمْتُ
أستاذي الرائــعَ كان أبي
جوَّدتُ على يده القرآنَ
وحفظتُ، حفظتُ عن العربِ
قصصاً، وقصـائدَ كاللهبِ
أستاذي الرائعَ كان أبي)(1)
ومن ثم التقاؤه، وهو يافع، بأستاذه الثاني المناضل زكي الأرسوزي، في نادي العروبة بأنطاكية. وهناك عمّده الأستاذ شاعراً للعروبة. يقول الأستاذ أنطون مقدسي في كلمته (الإيمان العظيم):
(فحين وضع الأرسوزي الفتى سليمان على المنصة، وقدَّمه للجمهور على أنه شاعر العروبة، تحدَّد مصير الرجل مرة ولكل مرة: لقد وجد ليكون شاعر العروبة.. وكان لها، وسيكون)(2).
من هذه البداية في الكتّاب وفي النادي انطلق شعر سليمان العيسى، الذي استمعت له الجماهير وصفقت له خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وشكّل مادة دواوينه الحماسية الملتهبة:
أعاصير في السلاسل، شاعر بين الجدران، رمال عطشى، قصائد عربية، صلاة لأرض الثورة، ثائر من غفار...
وفي هذا الشعر حافظ سليمان على (التطابق الكامل بين وحدة قضيته الفكرية - النفسية، ووحدة موقفه الفني. لقد وهب نفسه لقضية واحدة هي قضية الوطن، ووهب شعره لقضية فنية واحدة هي قضية الأصالة في التعبير)(3)، كما يقول الدكتور حسام الخطيب، ويشرح في العبارات التالية:
(ومثلما سمح لنفسه بالتحرك تحت مظلة قضية الوطن، مغنياً للحرية والتحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية، كذلك سمح لنفسه بالتحرك تحت مظلة أصالة التعبير، مستفيداً من طاقات القصيدة العمودية، والتفعيلة الخليلية، والصورة المقبولة في شرع الأصالة، والجملة العربية المعافاة. ومثلما أدار ظهره للقضايا الفردية ولنزعات الاغتراب وغرائب الموضوعات والمسائل التي شغلت بها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كذلك طوى كشحه عن الخيال المغرق في الإغراب، وعن الصورة المجتلبة، وعن الجملة المتوترة من الداخل، وعن النغمة المتمردة على موروث الأوزان الخليلية، وعن الكلمة التي لم تشهد بفصاحتها معاجم العرب).
هذا الإخلاص للعروبة، قلباً وقالباً يعد سمة فريدة عند الشاعر سليمان العيسى، ولكن الكثيرين ممن انساقوا وراء تيارات التجديد، والحداثة، وما بعد الحداثة... رأوا في تجربة سليمان العيسى امتداداً للكلاسيكية أو الإتباعية، أو في أحسن الأحوال نوعاً من الكلاسيكية الجديدة.
على أن تجاوب الجمهور معه، ونجاحه في الإبقاء على الصلة معه، على صعيد الوطن العربي، بل وتمتينها على مدى عقود طويلة يسوِّغ إصرار الشاعر على هذا الخط؛ أضف إلى ذلك قناعة الشاعر بصحة الرؤية التي وجَّهَتْ طفولته وشبابه. (فالينبوع واحد لم يتغير، والهم واحد لم يتبدل، والنهر لم يغيّر مجراه)(4).
إن سليمان لم يغير مجراه بالفعل، ولكن الظروف التي داهمته، وداهمت الأمة العربية بأسرها عام 1967 فرضت عليه - كما فرضت على غيره - إجراء مراجعة شاملة لتجربته السابقة، واتخاذ موقف إزاءها.
كان وقع الكارثة أليماً. فقد أظلمت الدنيا من حوله، وأغلقت عليه المنافذ. فسكت فترة طويلة تلفه الدهشة والذهول.. ثم بدأت المنافذ تتفتح أمامه، واحدة إثر أخرى: أدب الأطفال، شعراً وقصة ومسرحاً، ينقل عن طريقه تجربته القومية والإنسانية للأجيال الجديدة؛ والأدب المسرحي يعبر بواسطته عن هذه التجربة للكبار بدلاً من الخطاب المباشر الذي لم يعد يرتاح إليه كثيراً. وهذه المنافذ، ولا سيما أدب الأطفال، ما لبثت أن اتسعت وتطورت حتى غدت آفاقاً لا حدود لها.
التجربة هي التجربة، والنهر لم يغير مجراه؛ إلا أن مياهه توزعت على سواقي اتسعت بحسب الأغراض التي شقَّت لها.
لن أتناول مسرح الكبار في هذه الوقفة القصيرة، ولكن سأحصر الحديث في أدب الأطفال، فهو وحده يحتاج إلى أكثر من دراسة.
مِمَّا يتكون أدب الأطفال عند سليمان العيسى؟
أمامي قائمة تمتد على ثلاث صفحات، وتتضمن الأناشيد والمسرحيات الغنائية والقصص المؤلفة والمعربة.
ولنبدأ بالأناشيد:
لقد مثّلت الأناشيد بشير عودة سليمان إلى الكتابة بعد الصمت الطويل الذي أعقب نكسة الخامس من حزيران 1967م.
وبدأ آنئذ يفكر في الموضوعات التي يجب أن يتناولها في هذا المجال. وهكذا تكونت لديه مجموعة نشرها في اتحاد الكتاب بعنوان: (ديوان الأطفال)، ثم مجموعة أخرى بعنوان (ما زالوا الواحة) نشرها في اتحاد الكتاب أيضاً، ثم كتب عدداً من الأناشيد نشرها في مجلة (المعلم العربي)، وبعد ذلك جمع هذه الأناشيد في كتاب من عشرة أجزاء نشره في دار الآداب ببيروت عام 1978 بعنوان: غنوا يا أطفال.
خلال السنوات التالية وضع أناشيد جديدة في ثلاثة كتب بطلب من مكتبة لبنان، وعناوينها: قصائد للأطفال، وأغاني النهار، وأغاني المساء، وبعض هذه مترجم.
ثم بدا له أن يجمع هذه الأناشيد كلها في كتاب واحد، أسماه: ديوان الأطفال، وصدر عن دار الفكر بدمشق 1999، وطبع ما فاض منها في كتاب مستقل بعنوان (فرح للأطفال)، صدر عن دار الحافظ بدمشق 2006م.
هذه الأناشيد لقيت صدى واسعاً لدى الكبار والصغار، واستقبلتها الكتب والمجلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، لذلك قرر سليمان أن يزود القصص التي قام بتعريبها بالمشاركة مع زملائه أو معي بنشيد أو أكثر. وهكذا تجمع لديه أعداد جديدة منها يعمل على إصدارها تدريجياً بصورة مستقلة.
وقد شرح سليمان هذه التجربة أكثر من مرة في حواراته الصحفية أو التلفزيونية، كما قدّم عنها دراسات للمؤتمرات والندوات التي شارك فيها.
أما أنا فقد كتبت دراسة عن الأناشيد التي يضمها ديوان الأطفال، ونشرتها في كتيب بعنوان (سليمان العيسى في ديوان الأطفال) صدرت عن دار الحافظ عام 2007(5). ويسرني هنا أن أقدم لمحة عنها:
يتميز (ديوان الأطفال) بتنوعه، فهو يضم الأناشيد، والمقطوعات الحوارية، والقصص. وكل من هذه الأجناس ينطوي على زاد غني من الموضوعات والقيم.
وهو يتوجه للصغار، لإبطال الآثار السلبية لمحيطهم، عن طريق إعطائهم إحساساً بإمكاناتهم، وجعلهم يتغنون بالقيم الضرورية لتفتيحها، ويمارسون هذه القيم في حياتهم اليومية. فالمبادئ لا يمكن أن تصبح عملية بصورة آلية، ولابد لتحقيقها من زيادة وعي الأطفال بما يعملونه، وكيف يعملونه، ولماذا؟
كما يتوجه للكبار لينبههم إلى أن إخفاقاتهم ربما كانت تعود لعدم حصولهم على التنشئة المناسبة التي كان من الممكن لها أن تساعدهم في مواجهة الأخطار التي حاقت بوطنهم وما تزال، ويحثهم على بذل كل ما يستطيعون لإحاطة أبنائهم بتلك الرعاية التي فاتتهم، علَّ هؤلاء ينجحون في وقف التراجع، ويشقون الطريق إلى المستقبل المنشود. فتربية الأطفال تربية جيدة هي أفضل توظيف للمستقبل. وفي مقدمة الديوان يخاطب الشاعر الكبار قائلاً:
(دعوا الطفلَ يغني..
بل غنّوا معه، أيها الكبار!
إن الكلمة الحلوة الجميلة التي نضعها على شفتيه هي أثمن هدية نقدمها له.
لكي يحبَّ الأطفال لغتهم،
لكي يحبوا وطنهم،
لكي يحبوا الناسَ، والزهرَ، والربيع، والحياة،
علِّموهم الأناشيد الحلوة..
اكتبوا لهم شعراً جميلاً..)(6)
أما الشعر الجميل فهو، كما تقول المقدمة، الشعر الذي يتشابك فيه الوضوح والغموض، والحلم والواقع، والمحسوس والمعقول، والحقيقة والخيال.
الشعر الذي يجمع بين اللفظة الرقيقة الموحية، والصورة الشعرية الجميلة، والفكرة النبيلة الخيرة، والوزن الموسيقي الخفيف الرشيق.
وفي الأناشيد التي تشكل القسم الأكبر من الديوان يعبر الشاعر عن الكيفية التي نمكن بها الكائنات البشرية الصغيرة من النماء، بحيث تصبـــح راشـدة فعالة، ونساعدها على استخدام قواها الذاتية وتنميتها باكتساب المعارف الضرورية وممارسة الهوايات والقيم الإيجابية، وإقامة العلاقات البنـــاءة، والتوصل في نهاية المطــــاف إلى فهم ذاتها وتقديرها، وفهم العالم الذي يحيط بها، والتلاؤم معه.
وفي سبيل إلقاء الضوء على ما يجسده الديوان من معارف ومشاعر، وقيم، ومُثُل، وآمال، وتطلعات، وزعتُ الأناشيد على المجالات التالية:
1- العالم الشخصي للطفل، أو مفهوم الذات لديه، وهو يضم الأناشيد التي تتحدث عن أسماء الأطفال، وهواياتهم، ومنجزاتهم...
2- عالم المدرسة واللعب. فالتعلم واللعب وجهان لعملة واحدة، إذا ما نظرنا للّعب في صورته الإيجابية، ولا سيما في مرحلة الطفولة المبكرة.
3- عالم الطبيعة.. بما تحتويه من فصول، وشمس، وقمر، ونجوم، ونبات، وماء، وحيوان، ولا سيما الحيوان الأليف.
4- عالم الإنسان، بدءاً من الأسرة وانتهاء بالمجتمع الإنساني الكبير.
لقد أصاب هذه الأناشيد بعض النقد بحجة صعوبة بعض مفرداتها، أو معانيها أو صورها، أو بحجة كونها تربوية تطلب من الأطفال الحفظ والتكرار؛ إلا أنها أصابت الكثير من التقدير والحب ولا سيما ممن نشأوا عليها وجعلوها رفيقة لهم في يقظتهم ونومهم وجدّهم ولعبهم وأحلامهم، كما تدل عليها شهاداتهم المنثورة في الصحف ومواقع الإنترنت.
وسأكتفي هنا بذكر تعليق الناقد الكويتي د. خالد عبد اللطيف الشايجي بشأنها. يقول الناقد:
(لقد أصاب الشاعر سليمان العيسى الكثير من النقد الذي هو في غير محله، على الرغم من الدراسات الكثيرة، جامعية وكتب ومقالات لكبار المختصين في أدب الطفل أكدت أن تجربة سليمان العيسى خاصة في أدب الطفل كانت رائدة ومثار اهتمام كبير، وكانت الفترة التي جاءت فيها أحوج ما تكون إلى هذا النوع من الأدب. ويحضرني قول أستاذة أردنية فاضلة متخصصة في أدب الأطفال - لا أذكر اسمها كانت في زيارة الكويت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أجرت إذاعة الكويت لقاءً معها حول ذلك، قالت فيه عن عطاء الميدان الثقافي العربي الموجه للطفل في تلك الحقبة: (من إحصائية عالمية عن أدب الأطفال وجدنا أن ما يكتب سنوياً للطفل من كتب في أوروبا يساوي ثمانية في المئة على الأرجح بينما لا يكتب للطفل في الوطن العربي سنوياً غير ما يعادل سطرين فقط). وإذا كان ذلك صحيحاً فأنا أعتقد بأنه لابد أن يكون هذان السطران هما من صنع سليمان العيسى)(7).
****
هوامش الدراسة:
(1) العيسى، سليمان، أحكي لكم طفولتي يا صغار! اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، 2001م.
(2) المقدسي، انطون (الإيمان العظيم)، مع سليمان العيسى، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1984م.
(3) الخطيب، حسام (سليمان العيسى: الموهبة والفن)، مع سليمان العيسى، دار طلاس، دمشق، 1984.
(4) العيسى، سليمان، الأعمال الشعرية، ج1، المقدمة، ص14 .
(5) أبيض، ملكة، سليمان العيسى في ديوان الأطفال، دار الحافظ، دمشق، 2007م.
(6) العيسى، سليمان، ديوان الأطفال، دار الفكر، دمشق، 1999م.
(7) الشايجي, خالد عبداللطيف (سليمان العيسى.. الشاعر), صحيفة الجزيرة, المجلة
الثقافية, الاثنين 10-09-2007, العدد 215.