حين يسكن الهواء كأسا فارغة فلا يمكن أن يملأها الماء، وحين تكون ذات الكأس مترعة بالماء فلن تتسع للهواء إلا بقدر تناقص الماء منها، هذه حقيقة علمية تداعت إلى ذهني وأنا أقرأ كتاب (عميد الرحالين محمد بن ناصر العبودي) لكاتبه محمد بن عبدالله المشوح، الذي أصر أن يملأ كأس مشهدنا بعمل ضحل لم يكن في طرحه ماء عذبا يمكن أن يبل صدى القارئ بارتواء معرفي يليق بمكانة العبودي، وفي ذات الوقت لم ينبعث كهواء نقي يمكن أن يتنفسه المشهد بعمق وارتياح.
ولئن مطل مشهدنا العبودي حقه في الكتابة المبكرة عنه، إلا إن الوفاء له لا ينبغي أن يكون ناقصا مبتورا، ولا قميئا مشوها ككتاب (عميد الرحالين) الذي أخفق (مؤلفه) فيما نذر قلمه له، حين أعمله قصا من مؤلفات العبودي ولزقا في كتابه، دون أن يضيف جديدا، أو يتم نقصا، أو يكشف عن غائب لم يعرف إلا من خلاله، وكل ما فعله (المؤلف) أنه كان (يأخذ من جيب العبودي ويعايده) كما يقال في لغتنا المحكية. وحين ارتضى لعمله هذا النوع من الاحتطاب البحثي، لم يقنع بمستواه المتراوح مابين توفيق وتلفيق، ليقدمه إلى القراء على هذا الأساس، بوصفه جمعا وإعدادا، بل بالغ في الاعتداد به، فانتحل صفة تأليفه، كما بدا الكتاب منسوبا إليه من خلال مغلفه الورقي الصقيل، وغلافه الجلدي المقوى، أي أن ثمة سبق وترصد استهدفا هذه النسبة، ونفيا عنها شبهة الخطأ أو العفوية المحضة، وقد كان الأولى بالكاتب أن يسم كتابه بكلمتي الجمع أو الإعداد أو بهما معا، لكونهما الأليق بعمله القائم على تقنية القص واللزق، وهما المكيالان اللذان اغترف بهما من مؤلفات العبودي بغير حساب، حتى تضخم (كتابه) وقد ناهزت صفحاته الخمسمائة صفحة تقريبا.
والمحصلة أن هذه الدراسة قد أضرت بالشخصية المدروسة، لقصورها عن الوفاء بما تستحقه من درس وبحث عميقين، فيما أوهمت الباحثين أنها قد قامت بالواجب الكفائي نحوها، وواقع الحال أنها لم تقدم شيئا ذا قيمة في مجال البحث العلمي، سوى الجمع والمراكمة المعلوماتية الحاشدة، إلى جانب قصورها عن بلوغ الحق العيني، لدرس معطيات كثيرة تميز بها المترجم له، وأخفق الكاتب في استنطاقها بامتياز لا يحسد عليه.
وحتى نضع النقط على الحروف، فسنمضي في جولة سريعة مع هذا السفر، الكبير بحجمه، الصغير بمحجومه، لنستخرج صواع الحقيقة من رحل (كاتبه)، ولنرى ما يخلص له من مادته العلمية، وما يحسب لغيره من نقوله المطولة، تلك التي أثقلت متن الكتاب، بما حشرت به فصوله حشرا، حتى استعظم حجمه، وثقل وزنه، وتورم ولكن بغير سمن !
الكتاب يقع في494ص من القطع المتوسط، بحسب معايير الطباعة العربية، أي بمقياس (17×24)، وهو مجلد تجليدا فاخرا، حليت واجهته بزخارف إسلامية مذهبة، ورقمت حروف عنوانه بكتابة نافرة، أما غلافه الخارجي فلف بورق صقيل من السلافان الخافت، وحُلي بكتابة لامعة لتومض على سطحه، الذي فاق في جودته أغلفة المعاجم التي تعمل المكتبات المعروفة على إصدارها، كما جمُل غلافه الورقي بمزيج من صورة ضوئية ولوحة تشكيلية متجانسة، أوحت بفخامة المطبوع، إلا إن الكاتب لم ينسب اللوحة لراسمها، كما العرف الثقافي المعتبر في هذا الشأن، واللوحة في الجملة تحكي: صورة صحراء متسعة المدى، وفي أفقها يرى وهج شمس مشرقة، وبأسفلها بصمة أقدام تعبر إلى ما لا نهاية، والصحراء وتلك الخطى ترمزان إلى رحلات الشيخ الطويلة الشاقة، وأيا كان الوصف والموصوف فهذا النوع من التعبير على لوحة الغلاف لابد له من معبر، لأن التعبير عمل، والعمل لابد له من عامل، فمن العامل، ومن تراه يكون: أهو (المؤلف) إذ لم يُسمَ غيره، أم سواه ممن أسهموا في النهوض بهذا العمل فأغفلت أسماؤهم سهوا أو نسيانا؟ على كل كان لابد من التسمية لتزول التعمية، لأن لهذه الرموز دلالات إشارية تقرأ من خلالها.
هذا ما يتعلق بالغلاف، أما ورق الكتاب فهو من أجود ما تطبع به الكتب الآن، وأحسبه من ورق الشامواه الفرنسي الباهظ الثمن، وفي الجملة فالكتاب مطبوع بأجود مواصفات الطباعة الحديثة، والعبودي يستحق هذا الاحتفاء، والكاتب يشكر عليه، إلا إن هذا النوع من الطباعة الباذخة تنعكس - ولابد - على ثمن الكتاب، وارتفاع سعره، وبرجوازيته ونخبوية مقتنييه، وقد كان يجمل بالكاتب أن يصدر كتابه على نوعين أو ثلاثة أنواع من الطباعة: فاخرة منتخبة كالتي أسلفنا الحديث عنها، وأخرى متوسطة بغلاف كرتوني تكون بثمن معقول، وثالثة بغلاف مقوى تكون بثمن منخفض، ليستطيعه الطلاب وذوو الدخل المحدود، أسوة بإصدارات دور النشر الرائدة، التي تصدر نسخة الغلاف الجلدي، ونسخة الغلاف الورقي، بال إضافة إلى النسخة البرجوازية الباذخة، التي جعلها الكاتب خياره الأوحد! أما دار النشر التي عهد إليها بطباعة هذا الكتاب فهي: دار الميمان للنشر والتوزيع في الرياض، وهي دار محدثة، وبالطبع محدودة التجربة، وقليلة الخبرة، وآية ذلك أن ديباجة الطبع ورقم الإيداع المرقومان في أول الكتاب، يثبتان حقوق الملكية الفكرية لكل من: المؤلف والناشر معا، رغم أن كلا منهما يدعيها لنفسه، وليس ثمة اشتراك فيما يزعمان الإنفراد به، وفي هذا تناقض لا ينسجم وآلية الإيداع المعمول بها في بلادنا، وهذا الخطأ قد يغتفر لغير (المؤلف) أما هو فلا، لكونه محام من جهة، ولكون الخطأ يتعلق بأبجدية قانونية لا ينبغي لمثله أن يقع في مثلها.
بعد الغلاف يقف بنا (المؤلف) عند عتبة كتابه الثانية، مهديا عمله هذا إلى روحي والديه يرحمهما الله، ثم مقدمة للدكتور حسن بن فهد الهويمل، وهي مقدمة دعائية لا تعريفية وعاطفية لا موضوعية، وقد أريد لها أن تكون فاتحة الكتاب، وفي ذات الوقت تعويذة تقيه سهام النقد والنقاد، ومن هنا جاءت موقرة بالمجاملة المفسدة، والمبالغة المضللة، لتسحر أعين القراء فتريهم ما لا يرون، وهي تكيل المدح للكتاب وكاتبه بما لا يستحقان من مدح وثناء، وفيها يقول الهويمل راقيا الكتاب بكلمة من جوامع المدح: (قرأت الكتاب فألفيته وافيا متقصيا، معتمدا المنهجية والمرجعية والخطة المناسبة لمثل هذا العمل - ويضيف منتصرا للكم دون الكيف - وأحسب أن كتابا ينيف على خمسمائة صفحة سيكون في جوفه كل الفراء) انتهى كلامه الذي ستتكشف حقيقته حين نرفع الغطاء عما ضمه جوف الفراء.
وأول الصيد حيال تلك المقدمة التطبيلية الصاخبة محاكاة (المؤلف) لها بامتنان ظاهر، ومقارضته لثناء الهويمل فيها بثناء مثله، في محاصة مدائحية تضمنتها مقالته المنشورة لاحقا في جريدة الجزيرة تحت عنوان: (الدكتور الهويمل إشادة وريادة)، وفيها يصف (المؤلف) المشوح مقدمة الهويمل لكتابه هذا فيقول: (وتأتي إرادة الله وبلا شعور أن صدر لي كتابان الأول مفردات والثاني عميد الرحالين محمد بن ناصر العبودي ويحفلان جميعا بتقديمه وزفته) الجزيرة العدد (12511).
وتأمل قوله: (يحفلان بتقديمه وزفته) ليشتعل المدى أمامك بحفل زفاف باذخ، وحفل الزفاف لا بد له من عروس، والعروس هي التي تزف إلى عرسها، وما دام هنالك عروس فلابد أن تكون أمها حاضرة، والأم هي التي تزغرد لابنتها، وفي لغتنا المحكية يقال: (لا يمدح العروس إلا أمها) فهل كان كتاب المشوح هو العروس التي زغرد لها الهويمل، كما أفادنا المشوح من حيث لا يشعر؟!
من مأثور أقوال الإمام سفيان الثوري - يرحمه الله - قوله: (ما وضع رجل يده في قصعة رجل إلا ذل له)، وهذا عين ما حاق بالهويمل الناقد، حين غاص بيده في قصعة المشوح، واستطاب طعامه وشرابه، وهو يختلف إلى منتداه من حين إلى حين، فاستحال إلى هويمل مجامل، يحسن المجاملة أكثر مما يحسن النقد، والمشوح تلميذ الهويمل، والأولى بالأستاذ أن يتعاهد تلميذه بالتعليم والتوجيه لا بالمجاملة والمداهنة، التي ترقى بها الأستاذ من ناقد مجامل إلى ناقد مقاول، يدبج لتلميذه المقدمات الأفلاطونية الفاضلة، في مدرسة التقريض النموذجية، وإذا استمرأ هذا الأستاذ وأضرابه هذا السلوك فتلك كارثة كبرى، لأنها ستقلص عدد النقاد، وستحيد سائرهم، مادام كل واحد منهم إذا دعي من وجيه ألُجم لسانه، وشل بنانه، وكُسر قلمه، وإذا استشرى هذا الداء بينهم فهذا نذير شؤم يعني أن النقاد مهددون بالفناء لانحياز قدواتهم للمجاملات وضغوطها القاتلة. وبالأمس القريب كرم المُشوحُ الغذامي كما كرم الهويمل من قبل، فهل هذا يعني أن الغذامي سيدبج فاتحة الكتاب القادم للمشوح، ليمدحه كما مدحه الهويمل، وإذا فعل الغذامي.. فهل سيتغاضى عن أخطائه كما تغاضى الهويمل، أم سيعوذه بمصل ثقافي ناجع، ضمن نسق ثقافي جديد، يحتضن مولوده القادم، ويبرر له كما برر له الهويمل، بالطبع هذا ما لا أرجوه، لأن ما يفقده الناقد في هذه المواطن أشياء لا تشترى كما يقول أمل دنقل، والناقد قاض كما عُدَ ذات زمن، وليس موظف علاقات عامة، يلاطف هذا ويداري ذاك، والقاضي مطالب بالعدل لا المحاباة، وكذا الناقد، لذا لا تجامل، لا تهادن، لا تصالح... إذا كان الثمن صدقك ووضوحك وموضوعيتك .
مشكلة الهويمل وأضرابه من عتاة الأكاديميين، أنهم لا يعدون العلم إلا ما أخرجته جامعاتهم، فإذا أشار أحدهم إلى كتاب بوصفه دراسة أكاديمية، ألفيت في نطقه انتفاخة أوداج واستعلاء كلمات، حتى لكأن الكتاب الجامعي وحده الابن الشرعي لمنتجنا الثقافي، فيما سواه لقيط معرفي لا يعرف له أب أو أم، ومن هنا أشار الهويمل إلى كتاب المشوح بوصفه: (وافيا متقصيا، معتمدا المنجهية والمرجعية والخطة المناسبة لمثل هذا العمل)، وهذا وصف موارب مخاتل.. لأن العمل الذي لم يشأ الهويمل أن يسميه - في معرض تقديمه لعميد الرحالين - هو (العمل) غير العلمي أو غير الأكاديمي، ولو كان أكثر صدقا وأبان عن خبيئة نفسه لقال: إنه العمل النكرة المنبت من دوحة العلم والأدب، أي إنه العمل الذي لا يرتقي إلى مصاف الكتب الجامعية، وعليه فهو لا يستحق القراءة ناهيك عن النقد، وبالتالي فهو كتاب إعلامي أو دعائي أو صحافي، أو أي شيء آخر إلا أن يكون علميا، ومعنى غير علمي بمفهوم الهويمل أي غير أكاديمي، وما دام ليس علميا فاللباقة تقتضي من الهويمل اللين والمجاملة لا النقد والمحاكمة !
نقول هذا مع علمنا أن الكثير من الرسائل الجامعية تُناقش ولا تطبع، وبالتالي لا تقرأ، لتناولها موضوعات تخصصية دقيقة، أما غيرها من التي لا يراها الهويمل شيئا فهي المطبوعة والمنشورة، ككتاب عميد الرحالين وغيره، وبالتالي فهي المقروءة والجديرة بالنقد، لأنها تصل إلى القراء، خلافا لغيرها الأسيرة غبار أرففها، تلك التي لا يحرص على قراءتها إلا المختصون وقليلا ما هم، والكتب المقروءة هي التي تؤثر في وعي القراء، وتترك أثرها على معرفتهم وفكرهم وثقافتهم، والسكوت عن نقدها أشد خطورة على الوعي والفكر والثقافة من السكوت عن غيرها، لأن الكتب الجامعية محكمة على كل حال، أما غيرها فتحكيمها تزكيات الكبار لها، على الأقل لدى عامة القراء، كتزكية الهويمل وأمثاله لمن يقرضون كتبهم، وتزكية الكبار للمنتج الثقافي مهمة وخطيرة في آن، لأنها أشبه بعلامة جودة تضعها هيئة مواصفات ومقاييس على عمل جيد، للدلالة على مطابقته للمعايير المعتبرة في فنه، ومن هذا القبيل تقديم الناقد ومدحه لكتاب من الكتب، لأن عمله هذا أشبه بعمل وزارة الصحة حين تفسح لدواء، أو وزارة التجارة حين تفسح لغذاء... وما يوازي ذلك من إجراءات لا يحتمل إمضاؤها أكثر من تفسير واحد لدى المستهلك الذي عادة ما يحصر تلك الإجازة في جودة المنتج، وسلامته من العيوب، وبذات الفهم يحمل القارئ ما تستفتح به تلك الكتب المقرضة بأفانين المدح التجميلي الخادع. ومن هنا فإن مدح الكتب غير المحكمة، أخطر من السكوت عن نقدها، لكونها غير محكمة أولا، وهذا يعني أنها مستحقة للنقد لعدم تحكيمها، وثانيا لأن مدحها يخدع القراء بأماديح مقدميها، وحتى لا نذهب بعيدا فبعد صدور كتاب (عميد الرحالين) كتب محرر ثقافي بجريدة الجزيرة خبرا لافتا، استهله بكلمة صغيرة، ولكنها ذات معنى كبير، ولمعناها دلالة، وقد جاء في مستهلها: (زكى الدكتور حسن الهويمل كتابَ عميد الرحالين ...) المجلة الثقافية، العدد 43، الاثنين 20 ذو القعدة 1424هـ.
وفي إحدى المجلات الثقافية كتب أحمد إبراهيم مقالة مطولة عن هذا الكتاب، أشاد فيها بالعبودي، ثم أشاد بـ(المؤلف)، ومما قال عنهما: لقد كانت هذه السيرة (دافعا لقيام الباحث محمد بن عبدالله المشوح لوضع مجلد في حياة الشيخ وإسهاماته) انتهى. ولك أن تتصور إيحاء كلمة (قيام الباحث) لتتراء أمام عينيك مشاق التأليف التي يرزأ بها الباحثون عادة، وكلمة (وضع مجلدا) لتعرف مقدار الوجاهة الثقافية التي اكتسبها المشوح من جراء ذلك المدح المجاني الرخيص، ولم ينس أحمد إبراهيم في غمرة انخداعه أن ينوه بدور الهويمل في التقديم لهذا الكتاب، وهو يذكر أن فاتحته كانت: (بقلم الدكتور الأديب حسن بن فهد الهويمل الأستاذ غير المتفرغ بجامعة الإمام بالقصيم ورئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي بالرياض) المجلة العربية، العدد 324، السنة 29 محرم 1425هـ، فهل هذا كل شيء؟!