أعتقد أن الثقافة هي ممارسة لحرية اختيار رؤية كل منا نحو الكليات وتفاصيلها، وموقفه من مضمونات تلك الكليات وحسه التأويلي في تحليل تفاصيلها، دون التقيد بعرف ديني أو منطق ثقافي مفروضين أو اعتبارات سياسية تجبرك على تزيف أو تعديل الحقيقة الثقافية، أو الاحتيال عليها، كل ذلك مع وجوب توفر ميثاق المعقولية الضامن للموضوعية وسلامة الاختلاف الثقافي وأدبياته وحقوقه في التعبير والتمثيل، الاختلاف كسلسلة من إعادة تصميم الكليات ضمن عمليتي الهدم والبناء أو التطوير من خلال توسيع دائرة مفاهيم الكليات، وهي توسعة تُمكن من استمرار الإضافة وتعدد صيغ التطبيق، لتحقيق قابلية العصرنة والحدثنة لبِنى العقل الجمعي المتحكم في التفكير اليومي للفرد والتفكير الاستباقي لصنّاع القرار والسلطة.
كما أنها ضامن أيضا لتفعيل ديمقراطي مُستفاد منه في تنظيم عمليات التقويم وقرارات التغيير الثقافيين، وبما يكفل في النهاية حق (المنطق الثقافي) لكل مثقف أو مفكر كإنسان على المستوى الأول، وكمسؤول متبنٍّ لمقرر التغيير الثقافي كمستوى يتوازى مع طبيعة الدور في الافتراض، وفي مستوى أعلويّ كمشارك في صناعة القرار والسلطة السياسيتين، كونهما المتحكم في حركة وتوجيه ووحدة التفكير الاجتماعي الثقافي.
لكن الأمر ليس يسيرا، أقصد موقفنا من (المنطق الثقافي التجديدي) وتفعيله، بل هو معقد لحدّ التقاطع والصراع، وخاصة في مجتمع مغلق ثقافيا كالسعودية.
والإغلاق الثقافي أقصد به عدم تأثر الخطاب الثقافي الرسمي والاجتماعي بالتفكير الثقافي المستجد الذي ظهر في بعض التجارب الثقافية لدينا، ولا أقصد عدمية فكرة تجديد التفكير الثقافي في أساسه.
وهو ما يعني أن الخطاب الثقافي التقليدي لدينا ما يزال حتى الآن هو الأقوى من أي منطق ثقافي يحمل تفكيرا ثقافيا تجديديا وأن منطقه الثقافي هو المهيمن على المنجز الثقافي ومعايير النقد الثقافي وتوجهات وتوجيهات التفكير الثقافي، رغم وجود بعض التجارب ذات المنطق الثقافي التجديدي، لكنها ضعيفة التأثير والتأثر، مقابل المنطق الثقافي التقليدي بفضل المساندتين الدينية والسياسية التي توفر للمنطق التقليدي حماية وحصانة كافيتين لعدم اختراقه أو إعادة تقويمه وصياغته، أي تحويل المنطق الثقافي للخطاب الثقافي التقليدي إلى (تابو) بضمان أصوله الفكرية، إضافة إلى أن المحافظة على تقاليد المنطق الثقافي لذلك الخطاب بمضموناته الرئيسة، ووجود تلك النفعية المشتركة هي التي تطرد وتحارب أي منطق ثقافي تجديدي أو مختلف يهدف إلى تقويم المنطق الثقافي التقليدي أو إعادة صياغته وفق تطوير المضمونات الرئيسة له، وتفعيل التطوير سوف يغيّر بالتالي المظاهر المُؤلفة للمنطق الثقافي التقليدي، مبلورا لمظاهر تتناسب مع مضمونات البرمجة الثقافية الجديدة لرباعية التغير، أي قيم ورؤى ومواقف وقرارات الفرد.
لكن لو أن هدف المنطق الثقافي التجديدي أو المختلف شكلاني لا يتعرض لقيمة حجاب المنطق الثقافي التقليدي وسلطته، قد يُسمح بمروره برعاية المنطق الثقافي التقليدي طبعا، أي أن التجديد الشكلاني للمنطق الثقافي المختلف هو بدوره محدود ضمن مجموعة خاصة من تصورات التصميم تتبع مقررات المنطق الثقافي التقليدي بطريقة غير مباشرة توهم بالاستقلالية الثقافية، وفق ما يُسمح لها من قبله من سقف محدود تخضع مقاساته بوجه عام لقانون الرقابة الثقافية لذلك المنطق، وهنا يصبح الاحتيال بين المنطقين متبادلا، وأظن أن المنطقين الثقافيين التقليدي والتجديدي في السعودية يصنفان ضمن ذلك الاحتيال.
لكن دكتاتورية المنطق الثقافي التقليدي لا تبرر ضعف وانهزامية وعدم جدية المنطق الثقافي التجديدي لدينا بداية من العواد وحمزة شحاتة وصولا إلى الغذامي الذي أغلق خلفه باب التجديد الثقافي حتى الآن، وإن كان الدكتور سعد البازعي والدكتور معجب الزهراني أقرب المثقفين حاليا لفتح باب تجديد المنطق الثقافي الذي أغلقه الغذامي؛ لأنهما يمتلكان أفكارا ثقافية تجديدية لكنها تحتاج إلى جرأة صارخة للجهر بها، ولأنهما لا يخضعان لجلباب الغذامي الثقافي وهذا مهم، فنحن الآن في حاجة إلى تجديد المنطق الثقافي بعيدا عن تقليد المنطق الثقافي الغذامي.
ونتيجة دكتاتورية المنطق الثقافي للخطاب التقليدي التي تُمارس باعتبار أنها (تابو)،، يتحرك المنطق الثقافي التجديدي المختلف عن المنطق الثقافي التقليدي كمعارض ثقافي وفكري لتحصيل استحقاق يمنحه إجازة أولية على تسميع أفكاره للمجتمع وفرضها بصفة إصلاحية، وتحقيق سلطة تمنحه مسؤولية تنفيذية بالتساوي مع المنطق الثقافي التقليدي، لتحرره من إحساسه بأنه فكر (أقلويّ)-أقلية- ول تفعيل أفكاره على مستوى الإصلاح والتغيير، وعادة الطموح التنفيذيّ للمنطق الثقافي التجديدي أي رغبته في التحول إلى سلطة أسوة بالمنطق الثقافي التقليدي، هو الذي يجر المنطقين إلى دائرة العنف والصراع الثقافيين، من خلال القمع الذي يمارسه المنطق الثقافي التقليدي على المنطق الثقافي التجديدي، والذي قد يدفع المنطق الثقافي التجديدي إلى التحول إلى مليشيا ثقافية تمارس التغيير الثقافي عبر قوة غير رسمية، ولا أدري هل من الممكن أن يصل المنطق الثقافي التجديدي لدينا لهذا المستوى الحاد من المعارضة أم لا؟.
وإن كنت أحسب أن حدوثه أو عدم حدوثه مرتبط بمجموع من العلاقات والتفاعلات، كطبيعة الفكر النضالي للمثقف السعودي المجدد، وجديّة منطقه الثقافي التجديدي، وأصالة المقرر التجديدي الذي يتبناه المثقف السعودي، وفاعلية المنجز الثقافي كوثيقة لقوننة المنطق الثقافي التجديدي، ومدى قدرة وثيقته الفكرية في صناعة خطاب ثقافي يٌثبت من خلاله مشروعية منجزه الثقافي.
كل تلك العلاقات والتفاعلات لا شك أنها تطبيقات تدل على مصداقية المنطق الثقافي التجديدي في التغير الثقافي، ولا يمكن أن نغفل عن محمولاتها أثناء تشخيص واقع المنطق الثقافي التجديدي لدينا.
فهل المنطق الثقافي التجديدي يتمثل كل تلك المواصفات؟
لقد تربى المثقف السعودي على أحادية الثقافة المخصوصة، فاللاوعي الثقافي عنده مرسوم بشكل دائري مما يٌطّوب أساسيات الخبرة الأولية، هذا التطويب في ذاته يمارس دور الطرد لأي خبرة ثقافية إضافية، معيقا قدرتها على الاندماج من خلال التراكمية.
وفي حالة تمرد اللاوعي الثقافي للمثقف على أساسيات الخبرة الأولية من خلال استقباله لخبرة ثقافية تتنافي مع تلك الأساسيات وإجبار الخبرة الأساسية على الاندماج مع الخبرة الإضافية وفرضها لإحداث تراكم، سيدخل الوعي العام للمثقف في صراعين، صراع مع اللاوعي الخاص وصراع مع المنطق الثقافي التقليدي، وحتى يواجه المثقف ذلك الصراعين، أمامه مخرج من مخرجين:
أولهما أن يقطع العلاقة بين خبرته الثقافية الأولية والخبرة الثقافية التي يتبناها منطقه الثقافي التجديدي، وهو بذا سيبني خارج جدار الخبرة الأولية، وأعتقد أن التجارب الثقافية التجديدية التي اتبعت هذا المخرج قد فشلت؛ لأن البناء خارج جدار الخبرة الأولية لا يحقق جماهيرية التأثر والتأثير للخبرة الثقافية الجديدة، ولا يضيف أي قيمة تراكمية ثقافية للتجربة العامة، كما يعيق صناعة خطاب رسمي للاستدلال عليها، مما يحصر ذلك المنطق داخل صفة (الطارئ).
والمخرج الثاني ممارسة عكسية لعملية الطرد، من خلال محاولة وعي المثقف الحاضر بطرد الخبرة الأولية من لاوعيه لاستبدالها بالخبرة الثقافية الجديدة، بدلا من طرد الخبرة الأولية للخبرة الجديدة، وهو مخرج قد يُصيب اللاوعي الخاص بالتشنج والغضب، كما أن عملية الطرد الخارجية كدلالة على قوة خاصة، قد تستفز المنطق الثقافي التقليدي، وهو استفزاز يحول المنطقين إلى صراع بين قوتين ثقافيتين، إضافة إلى أن إصرار دكتاتورية المنطق الثقافي التقليدي على الوجود الأحادي في فعل مقصود للإلغاء، قد يدفع المنطق الثقافي التجديدي على تبني ذات الإصرار، بحيث يتحول الصراع الثقافي إلى مبدأ (البقاء للأقوى)، بدلا من قيمة (التعدد ثراء ثقافي)، وحينها قد يتحول المنطق التجديدي إلى مليشية ثقافية كردة فعل لدكتاتورية المنطق التقليدي.
كما أن المثقف السعودي لم يتعود على التعدد الثقافي، لغياب واقعه وممارسة التعايش، وهو ما يجعل المنطق الثقافي التجديدي عند المثقف السعودي منطقا (طارئا) غير أصيل؛ لأن كل المثقفين لدينا بما فيهم من يدعي أنه من المجددين يخضعون للاوعي الثقافي التقليدي نهاية المطاف ولا يستطيعون عكس عملية الطرد، أو أعتقد ذلك، وهو ما يفسر لنا انهزامية التجارب ذات المنطق الثقافي التجديدي ومرورها على حياتنا الثقافية مرور الكرام رغم بعض ضجيجها.
وإحساس المثقف بأن منطقه التجديدي طارئ على جدار المنطق الثقافي التقليدي، قد يقلل من جدية التطبيق النضالي لذلك المنطق على المجتمع، ويغيّب صناعة إستراتيجية التأثر والتأثير لذلك المنطق، ليظل مجرد حماس ثقافي يٌحسب للتاريخ الشخصي لأفكار المثقف، ولذلك فهو غالبا لا يتقيد بمسؤولية الاستمرار والتفعيل وانجاز خطاب يحفظ تاريخ أفكاره ويهيأ لمرحلة تالية، وهو ما قصدت به من صناعة إستراتيجية التأثر والتأثير، إضافة إلى) طبيعة سيكولوجية المثقف السعودي) وهي طبيعة خاصة جدا، والحديث عنها متشابك إلى حد ما، ولذلك سأخصص لها موضوعا مستقلا فيما بعد.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244