يستحضر الكثير من الزنوج الأميركيين، وخصوصاً مثقفيهم، وهم قاب قوسين أو أدنى من إيصال أول أسود إلى البيت الأبيض.. يستحضرون في نفوسهم الرواية الشهيرة (كوخ العم توم)، للروائية الأميركية هارييت بيتشر ستاو. ولعل المرشح الديمقراطي باراك أوباما ذاته يدرك في قرارة نفسه أنه ما كان له أن يدخل المنتظم السياسي الأميركي، بكل هذا العنفوان، وأن يفرض نفسه بهذه القوة مرشحا مرموقا للرئاسة الأميركية، من دون أن تكون ستاو قد كتبت قبل أكثر من قرن ونصف القرن رائعتها الشهيرة (كوخ العم توم).
هزت تلك الرواية العظيمة الولايات المتحدة الأميركية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، راجة بقوة الزلازل والأعاصير ضمير الأميركيين، ومخلخلة سكينة أنفسهم تجاه تقاليدهم المتوارثة في استرقاق السود، والقوانين الضامنة لاستمرار العبودية، ومعاملة الزنوج كأنهم أشياء أو بضائع تباع وتشترى، دون أدنى إحساس بآدميتهم وبكرامتهم الإنسانية.
كانت تلك الرواية من الأعمال القليلة، التي تركت بصمتها واضحة جلية على وجه التاريخ الحديث، حتى إن الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن، الذي قاد ولايات الشمال الأميركي في حرب طاحنة على الولايات الأميركية الجنوبية، بهدف تحرير العبيد، قد استقبل صاحبة الرواية في مقر حكمه قائلا لها: (مسز ستاو.. إني سعيد بأن أرحب بك بوصفك مؤلفة تلك القصة، التي أحدثت هذه الحرب العظيمة).. لكن ستاو كانت تنفي على الدوام، كما يقول مؤرخو الأدب، أن تكون ألفت قصة أو رواية. لقد قالت ذات مرة إن (كل ما فعلته أني دونت ما شهدته بعيني في بعض ولايات الجنوب)، من اضطهاد وقهر للزنوج.
تعرض السود الأميركيون إلى مظالم تاريخية تقشعر لها الأبدان. جُلب الملايين من السود، على امتداد قرون، من غرب القارة الإفريقية، مثلما تجلب البضائع، وبيعوا في الولايات الأميركية المختلفة، وخاصة في الجنوب، حيث مزارع القطن الكبرى. كانت شبكات الاتجار في العبيد تنصب الفخاخ، وتصطاد الأفارقة من مواطنهم الأصلية، مثلما تُصطاد الفيلة والأبقار الوحشية والغزلان وغيرها، ثم تعمد إلى شحنهم في ظروف غير إنسانية، فكان أكثرهم يموت في الطريق مرضا وجوعا وكمدا.
ويذكر بعض المؤرخين لتلك الحقبة السوداء من تاريخ الإنسانية عامة والغرب خاصة، أن 66 معسكراً أقيم في دول غرب إفريقيا، وكانت تلك المعسكرات تسهر على صيد العبيد وبيعهم، بعد أن تم أخذ الفتوى من بابا الفاتيكان بجواز الاتجار في العبيد، وسد حاجة السيد الأبيض لرقيق يعملون في أرضه المكتشفة حديثا. كانت شبكات الصيد تختار من هذا البلد الإفريقي أفضل مزارعيه وتختطفهم، ومن ذلك البلد أفضل بنائيه وتصطادهم ثم تبيعهم.. الخ، حتى قُدّر عدد المختطفين بأكثر من 6 ملايين إنسان أسود، من أصل 30 مليون هم عدد سكان إفريقيا قبل نحو 4 قرون، جرى بيعهم في مختلف أرجاء أوروبا وفي العالم المكتشف حديثا: أميركا.
أحدثت مرحلة الاستعباد ضررا بليغا بالقارة السمراء. كان الضرر روحيا وديموغرافيا واقتصاديا واجتماعيا، إذ كان الشبان الأقواء والحرفاء المهرة هم أكثر المعرضين للخطف والاستعباد، وهم عادة في سن العمل والإنتاج، يديرون مزارع ومراع، ويعيلون زوجات وأطفالا وأمهات وآباء كبار السن. وقد ترك غيابهم المفاجئ أثرا سلبيا عظيما على المجتمع الإفريقي بأسره، وتضرر اقتصاد القارة السمراء، التي نكبت بعد العبودية بالاستعمار، أيما تضرر.
في الموطن الجديد استمر مسلسل اضطهاد السود. تم فصل المواليد عن والديهم، وجرى فرض المسيحية عليهم، وعوملت الأجيال السوداء المقطوعة عن أصولها وكأنها مجرد حيوانات لها أشكال آدمية، كانت تأكل لتعيش، وتعيش لتعمل في مزارع السادة البيض ومنازلهم. ومع الثورة الصناعية اقتضى تطور الصناعة في الولايات الأميركية الشمالية وجود أيد عاملة سوداء في المصانع. فطرحت فكرة تحرير العبيد لكي يعملوا في مصانع الشماليين، ولكن من دون تمتعهم بالحقوق الإنسانية كاملة. ووقعت الحرب الأهلية الأميركية عام 1861 وانتهت بعد سنوات بانتصار الشمال على الجنوب، وتم تحرير العبيد، ليواجه السود مرحلة جديدة من الاضطهاد هي مرحلة الميز العنصري.
كانت مرحلة التمييز العنصري قاسية جدا على العبيد السابقين. لم يعودوا مجرد بضائع تباع وتشترى، كما كانوا من قبل، فقد امتلكوا ناصية أجسادهم، لكن النظرة إليهم باعتبارهم من طينة منحطة سافلة، استمرت فاعلة في أوساط أغلبية البيض، الذين كانوا يرفضون المساواة والتخالط مع السود في المطاعم والفنادق ووسائل النقل العامة وأماكن الترفيه. ومع الزمن تطور النضال الأسود، وقطع منذ إلغاء العبودية حتى اليوم شوطا كبيرا، شهد تعرجات عديدة، وعرف هزائم كثيرة وانتصارات أكثر. وكانت ستينيات القرن العشرين حاسمة في نضال السود. تعددت محاولاتهم للتحرر التام من العبودية ومن مخلفاتها. ومع حركة الحقوق المدنية التي قادها المناضل الأسود الشهير الدكتور مارتن لوثر كينغ، ومع جماعة (أمة الإسلام) تحت قيادة المناضل الشهير مالكم إكس ومحمد علي كلاي ولويس فرخان وآخرين كثر، تمكن سود أميركا من إلغاء نظام الفصل والتمييز العنصريين البغيضين من القانون الأميركي، لكن العنصرية ظلت منتشرة في أوساط المجتمع الأميركي..
واليوم يأتي فوز أوباما بترشيح الحزب الديمقراطي له للمنافسة على الانتخابات الرئاسية، وفوزه المتوقع بقوة برئاسة الولايات المتحدة ليراغم السود العنصرية البغيضة ويتغلبوا عليها واقعا مشهودا، حتى وهي لا تزال تعشش في قلوب كثيرين من الأمريكيين، وبذلك يتوج النضال الزنجي المرير بتربع سيد أسود على عرش البيت الأبيض لأول مرة في التاريخ.