يعقوب ليس هو النبي الوحيد الذي يأتي النص على ذكره، فكتاب جبران خليل جبران المعنون بـ( النبي) يتصدر محادثة عميقة تدور بين يعقوب وروضة حول معنى الحياة وقوتها المتدفقة من خلال البشر.

أما مأثرة جبران الشهيرة: (أولادكم ليسوا لكم. أولادكم أبناء الحياة التي تشتاق إلى نفسها) 110 التي يقتبسها النص فترتبط مع رغبة يعقوب في معرفة إن كانت الطفلة زينب ابنته حقاً.

وحين نتأمل كلمات جبران في هذا الصدد ندرك أن البشر كلهم مجرد (أقواس) وأولادهم (سهام حية) قد رمت بها الحياة عن أقواسهم، فهم يأتون إلى الحياة من خلالهم وبهم، ولكن ليس منهم. الأبناء يخرجون من الآباء كفراشة بيكابيا في أطوارها، يحملون جيناتهم ويتشكلون بنهجهم، لكنهم لا يتطابقون معهم، متصلون بهم ومنفصلون عنهم في وقت واحد تماماً كما في لوحات بيكابيا. هذه الحكمة الجبرانية توضح أهمية بقاء أمر الطفلة (زينب) سرّاً بعد أن حرق يعقوب المظروف الذي يحمل التحليل الحاسم.

مسألة الدي. إن. آي تقع في داخل منظومة المشابهة دون التطابق التي يجري عليها النسق السردي لحكاية حب القصيبي، فالدي. إن. آي. يحمل سمات البشر كلهم، لكنه يختص كل فرد منهم بخصائص يستحيل تكرارها. زينب وغيرها من أبناء آدم وبناته هم دفق الحياة القادم لا محالة، كلهم واحد، كلهم مختلفون. يؤسس القصيبي متناً لحكاية تتراوح بنيتها في تلاقي خطوطها وتقاطعها وتقوم على حوارية بين وحدات سردية متعددة ومختلفة من جهة، ومتجانسة ومتآلفة من جهة أخرى لتنفتح على مسارات دلالية متنوعة تثري النص وتعمق دلالاته.

يتحول يعقوب داخل النص من بطل مسرود من قبل وعي سارد عليم يعمل على استبطان وعي الشخصية يستخدم الضمير الغائب (هو)، إلى سارد متمكن مسئول مسئولية تامة عن المتوازية السردية الماضوية يتحدث بالضمير (أنا)، فهو الذي يتولى مهمة الحكي عن محتوى أحلامه لمتلقي حكايته على أرض الواقع.

تعمل المحادثات الثنائية بين يعقوب وشخوص واقعه على كشف المزيد من التفاصيل عن علاقته السرية بروضة، فرغبته في الحديث عنها وإشراك سامعيه في وقائع علاقته بها تؤجج الفضول لديهم وتجعلهم يلاحقونه بأسئلة مماثلة تطالبه بإكمال المواقف التي لم يصل لنهايتها. يفرض يعقوب نفسه كراوٍ على هيلين قائلاً:

- هيلين! اجلسي.. أريد أن أروي لك المزيد من قصتي مع روضة.. 103

لكننا نجد هيلين فيما بعد تطلب منه في إصرار مماثل إطلاعها على المزيد:

- قبل أن أعطيك الحقنة لا بد أن تخبرني ما حدث في موضوع التحليل. لم تكمل القصة. 107 ومن البديهي أن يربط القارئ بين هذا الأسلوب السردي المتقطع والمعتمد على عنصر التشويق وبين أسلوب السرد الشهرزادي المألوف، ففي النص يصبح الرجل يعقوب ساردا أنثوياً يجيد تعليق السرد ثم التقاط خط أحداثه مرة أخرى لتأجيج رغبة المتلقي إلى سماع المزيد.

ويؤكد النص على الربط بين (حكاية حب) و(الليالي) بإرسال يعقوب وروضة إلى فندق (السندباد) لتناول وجبة الغداء 111، ثم يـُجري على لسان روضة مناداتها ليعقوب: (مولاي شهريار!)، ليجيبها: (مولاتي شهرزاد!) 36 ولا يكتفي يعقوب بتقليد طريقة شهرزاد في الحكي، بل نجده يتمثل أجواء حكاياتها حين ينتقل من مرحلة الإخبار عن أحداث ماضوية إلى مرحلة أسطرة الأحداث. يتمادى النص في التأكيد على التعالق بين (الليالي) وحكاية الحب القصيبية حين يقحم يعقوب عالم خياله على واقعه الحاضر وذلك باختراعه حكاية خرافية يرويها لجانيت: (في سالف العصر والأوان ولدت أميرة جميلة في قصر عظيم، كان اسمها فيروز وكان اسم أبيها الملك الماس وكان يحكم مملكة الزمرد...).

ويقوم يعقوب بتفريق أجزاء حكاية الأميرة فيروز والساحر فيثير ولع جانيت التي تتطلع لمعرفة أحداثها فتطلب بحماس طفولي: (دادي أريد أن أسمع باقي القصة..) 87.

كل هذه الإشارات تدفع القارئ إلى استحضار تجربة ألف ليلة وليلة وخط انطلاقها، ولا يجد مفراً من التبصر في ولع شهريار بالعذراوات الذي كان نتيجة لصدمته في زوجة سابقة تخون بلا وجل، والتمعن كذلك في أشكال التهرب من شبح الموت الذي يلوح به شهريار حول حياة فتيات مملكته. ويتكرر هذا النموذج الشهرياري ذو الإطار الأسطوري في وحدة قصصية أخرى داخل النص تسترجع البطش الذكوري بالنساء والتمسك بالحياة ورونقها الشبابي، ففي مشهد جميل يصف روضة وهي ترضع زينب الصغيرة، يتفاعل خيال يعقوب مع قطرة الحليب التي تحمل رحيق الحياة إلى فم الرضيعة وتتوالي في خياله مشاهد عدة تتضخم فيها تلك القطرة حتى تصبح بحجم بحيرة من الحليب، ثم تتقاطر مطراً، وتتدفق ينبوعاً، حتى تستقر في إبريق يناوله إياه جلجامش وهو يقول: (أنكيدو! اشرب! اشرب! وجدت إكسير الحياة. اشرب ولن تموت.(99 ويتمنى يعقوب لو أن قطرة الحليب الصافية تحمل في مكوناتها شفاء لعلته: جلجامش! هل تكفي قطرة واحدة لشفائي؟)100 ثم يفسر يعقوب لروضة سبب ذكره لبطل الملحمة السومرية قائلاً: (تصورت نفسي أعيش ملحمة جلجامش.. الأسطورة. البطل الذي يبحث عن اكسير الحياة ليعيد صديقه أنكيدو إلى الحياة).

وحين يعود إلى عالم الخيال يرى جلجامش بانتظاره بين الأشجار وفي يده إبريق الحليب، فيشرب ويحس بكل قطرة تتغلغل في عروقه لتبث البـُرْء معها.

شـُغِـلت ملحمة جلجامش بفكرة حتمية الموت وتحسرت على البشرية الفانية من خلال علاقة الصداقة التي ربطت جلجامش ملك أوروك (2700 ق.م. – 2650 ق.م.) بأنيكدو رفيقه المخلص الذي يموت فيصاب جلجامش بحزن شديد ويعصره الألم والخوف فينطلق في البرية باحثاً عن عشب سحري يعيد نضارة الشباب. لكن الملك يفقد في طريق عودته (نبتة الخلود) التي تطيل عمر الإنسان وتعيد إليه عنفوانه. يتكئ هذا التشابه بين (حكاية حب) والملحمة على التماس الواضح عند مسألة صعوبة الرحيل الأخير والرغبة الدفينة في البقاء، ثم في السعي وراء قطرة الحياة سواء كانت حليباً أم إكسيراً أم نبتة أم دواء أم قطرة ماء كتلك التي يبحث عنها بطل رواية (القطرة الأولى) جاهداً في مواجهة الهلاك عطشاً.

وفي كثير من الأحيان يصبح الحب هو المضاد الحيوي للفناء، ويكون بذلك الدافع للاستمرار والاستزادة، لذا فحين يتغزل يعقوب بروضة قائلاً: (يا امرأة! أنت كل بئر شرب منها كل بدوي ظامئ عبر القرون..)، فهو يساوي بين حبها وبين ماء الحياة، لذا تقفز إلى ذهنها مباشرة قطرة الماء التي شعر بها بطل تلك الرواية تتسرب من فمه مباشرة إلى مكامن الظمأ في جسده، وفي جسد القبيلة، 64 فتجيبه متأوه: (آه! القطرة الأولى)59.

لكن حضور جلجامش في النص يدفع اتجاه التوازي السردي نحو جوانية أوسع تلامس الهاجس الشهرياري بانتهاك ليالي العذراوات الأولى، فجلجامش كان أيضاً ملكاً ذا سلطة مستبدة استغلها في اندفاع متهور نحو الدخول بالفتيات قبل عرسانهن في ليلة الزفاف. وليعقوب شركاء في داخل النص يتعلقون بصغار السن كوسيلة انتعاش، فزوج روضة رجل كهل أشيب 21 يكبر يعقوب بعدة سنوات 52، وهيلين التي يروق لها ابنه الشاب يوسف فتصفه بالطبق الشهي الذي تتمنى أن تتذوقه، يصفها يعقوب بالعجوز القذرة، لكنها تذكره بأن لا فرق بينهما إذ أنه أيضاً عجوز قذر كونه أقام علاقة مع امرأة في عمر ابنه. 83-84 هذا التصابي المتمثل في الافتتان بصغار السن يعكس التشبث المستميت بالحياة والتخبط الرافض لحقيقة قرب الرحيل.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244