استراحة داخل صومعة الفكر إليها حسين عبدالله سراج سعد البواردي
|
للتعرف على من يعني شاعرنا دون استقصاء ولا تخمين كفانا الجهد.. وقال لنا من يعني:
يا وادي الغد حدثهم بمسرانا
على ضفاف الهوى والحب تجوانا
والخرَّد العين ضمخن الطريق هوى
وقد خرجن زرافات ووحدانا
هذي بجيد أختها تحنيه مازحة
وتلهو تلهو بشم الورد أحيانا
انهن أكثر من واحدة في حسابات الشاعر.. المفردة تعني المجموع.. تختصرها مفردة امرأة: الا انه استدرك تحديدا في مقطوعته (إليها)
يا ساريا وسواء الليل يخفيه
وهائما وبياض الصبح يبديه
يمطر الدمع من برح الفراق فلا
دمع يهدهد آلام الهوى فيه
لم تبق فيه بتاريخ الهوى رمقا
الا شعاعا من الذكرى يناجيه
الذكرى يا شاعرنا أبَرُّ من النسيان.. الوفاء ذكرى لا تموت لحب يستحق الذكر.. أما الهجر فإنه حب ميت أصيب بالشلل النفسي والحسي.
يا هاجري لفتة ارسلتها فذكت
عهدا تنورت الدنيا بماضيه
الا انها تجهمت بحاضره.. وهذا يكفي..
(هي) أيضا خطاب شعر وصفي لم تهتز فرائصه.. وانما ثبت على ما احسب دون هجران:
هي كالفجر بسمة ورواء
هي كالزهر نظرة في الخميلة
قد تجلى جمال بلقيس فيها
وإذا شئت (كليوبترا) الجميلة
جمعت من اليمانية أحلى ما فيها.. ومن المصرية أجمل ما فيها.. ومن منبت المحتد والمقام أسمى ما فيه.. عرَّفنا بها
انتِ في التاج للخلائق تاج
أنتِ في الصبر من قريش سليلة
كانت قرشية المحتد. والمولد. والنقاء. جميلة تلك المواصفات والصفات التي أطلقها على حبيبته.. ولكن هل صفا له الجو الحلال.. لا أدري؟!
العيون بحر.. ونهر.. وبحيران يرمي العشاق مجاديفهم فيها.. يبحرون ويعودون. وأحيانا ينتحرون بسهام العيون القاتلة..
يا لعينيها. ويا لي منهما
وبحيرات ترامت دون بر
يسبح النور على زرقتها
في محيا على سنا الحسن سفر
قد شربنا منهما صفو الهوى
وركبنا فيهما متن الخطر
موكب في موكب حطمته
وعلى الأشلاء واصلت السفر
الأشلاء يا شاعرنا لا تنجي من الغرق.. هكذا أعطيت النهاية الحزينة.. وقد حزنا لحزنك
أيها الباكي على رسم الهوى
عصفت بالرسم ريح فاندثر
لست أدري.. تساؤلات حائرة حيرتنا معه:
لست أدري
أين بدري الآن يسري
الحيرة تملكت قلبه، وحبه. وصحبه.. إلا انه في اصرار المحب يسأل عن مكانها.. عن أيام نشوى جمعت بينهما انتهت إلى آلام بسبب الوشاية والافتتان وربما الغيرة.. مع بدره الغائب احتجبت اطياف حبيبته..
ترى هل عادت تلك الحبيبة من جديد..؟ أم أنها حبيبة أخرى.. وما أكثر الحبيبات في قاموس الشعراء، انهم لا يملّون..!
غمرت ليلي الجميل طيوف
من نحيب يلوح اثر نحيب
امل ضاع في مجاهل أمسي
وهوى شاب قبل يوم مشيبي
ايها البدر يا نجي الهيامى
ضاق صدري من البعاد المريب
اتسع صدر شاعرنا.. فلكل ضيق فرج ومخرج..
صفق الحب حين آب حبيبي
بعد برح النوى.. وطول المغيب
قلت من فرحة تشيع بنفسي
(ليت ما كان لم يكن يا حبيبي)
وعفا الله عما سلف..
(الشاطئ الموعود) مأوى المحبين دائماً لأنها الأكثر أمانا لأمانيهم.. يمنحهم فرصة الخيال وزرقة السماء، وخضرة البحر دون سدود..
كان قلبي مجاهلاً وصحارى
وسدودا تداخلت في سدود
فإذا حبك المظفر يغزو
ويَدُكُّ الحدودَ تلو الحدود
وإذا تلكم القفار رياض
ناضرات بكل زهر نضيد
وفي غمرة اشتياقه.. وفراقه يتساءل:
لست أدري اللبعاد مصيري؟
أم انا قرب شاطئي الموعود؟
انتظر يا شاعر الحب.. فوعد المحبين دَين متى كان الحب القويم قائما:
شاعرنا سراج اوقد شمعة تجاربه.. وصفها بأنها مريرة.. هذا هو حكمه عليها.. لننتظر..
يا سهارى النجوم اين حبيبي؟
أين نايي؟ واين دَفِّي؟ وعودي
يشفق الليل من وجيع بكائي
والدراري على السهاد شهودي
شيء حزين ان تحل دموعه محل الانغام الجميلة التي توقعها أوتار نايه وأنغام دفه وعوده.. ولكن ماذا بيده؟ انه يصف حالته:
فكأني خُلقت نضو الليالي
وكأني أسير عود وخود
وكأني وُلدت والحب ظلي
في غدوي، وصحوتي، وهجودي
قد تساوى لديَّ ليلي. نهاري
وأنا بانتظار فجر جديد..
يا صديقي لماذا الانتظار محسوب على العاشق وحده.. ومحسوم لحساب الطرف الآخر، العاشق هو الذي يشكو دائماً ويبكي دائماً. ويبحر في بحور الخطر والتهلكة بين الحبيبة تتطلع إليه عن بُعد. صامتة؟ أو شامتة؟ او مترددة؟ أو متوعدة؟ هذا إذا كان حبا.. ولكن تجربتك ترقى إلى ما هو أبعد.. إلى التلون في العلاقة.. والتمرد على الصداقة:
فوجدت الصديق خِباً لدوداً!
ووجدت العدو خير صديق!!
ووجدت الوفاء قولا هراء!
ورأيت الخداع ملء الوجود!!
بعض الحقيقة لا كلها.. من قصيدة شاعرنا سراج (دمع ودم) اجتزئ هذه الأبيات الموحية والجميلة:
ما لقلبي كلما هبت صَبَا
هزه الشوق لأيام الصبا
وتمنى العيش في تلك الربى
هكذا الدنيا وصال وجفا
ونعيم مترف أو عدم
الأماني في حياتنا رفيقة عمر.. رفيقة تواجد وسفر.. انها الشحنة التي تمدنا بطاقة الحركة وديناميكيتها لأنها أمل يوصلنا إلى مرحلة العمل، ولكن الأماني في ايجابياتها تختلف في جوهرها عن (ليت) العاجزة المستكينة المشلولة الحركة:
ليت من أهوى معي في وحدتي
وأنا أرعى سهارى الأنجم
وعيون الليل يقظى وأنا
أتلوى في فراش السقم
قم من فراشك دَع ليت إلى جادة جادة تجف دموع شكواك.. وتخفف من وجعك.. وتحمل عيون الليل إلى أطباق تنسيك وتسليك دون خشية..
شاعرنا سراج اصطفى رفيقة دربه شاعرة مثله.. راح ينصت إليها وهي تنشد. وما ان خلصت من شعرها حتى بادلها شعرا بشعر:
تضوع من بيانِك كل نادي
وطرب من قصيدِك كل شادي
وغنى من رويِّك كل حادي
ونضر من حديثك كل وادي
فلا عجب تهافتنا عليه
كذاك الورد يجمع كل صادي
شاعرنا سافر بعيدا بعيدا إلى جزر الهاواي الساحرة.. سحرته.. واجتذبته طيبة أهلها الذين يقابلونه بتحيتهم (ألوها).. جعل منها عنوان قصيدة حلوة..
ألوها..
قلت: يا روحي ألوها.
هلو: من أنتِ
قالت: من هوائي
أي من جزر الهواي في المحيط الباسفيكي (الهادي).
بلادك جنة الدنيا.. أجابت
وأجمل جنة فيها (كوائي)
(كوائي) أجمل جزر هواي وأكثرها سحرا.. يمتد به الحوار معها:
أحقا لست أدري؟! غير اني
أراكِ هبطتِ من عليا السماء
يبدو ان جمالها (جمال هاواي) الطاغي مد إليه خياله.. ووقع في شِراك الشعر.. والسحر.. والعطر..
أيا عسلية العينين جودي
فوصلك بلسم من كل داء
تلالك سندس خضر. وزهر
وبحرك ساكن عذب الهواء
(كوائي). ما أحيلاكِ (كوائي)
لقد أرجعتِ عمري للوراء
يُغرق في وصفها.. ويَغرق هو نفسه في تفاصيلها.. ينسى ليلاه. وسلماه. ويختصر عشقه في هذين البيتين.
فلولاها كما كانت هوائي
ولا كانت كوائي من هوائي
هوائي ليت شعري يا هوائي
عرفتكِ والصبا ملء الرداء
انتهى هو.. أما هي فقد جاء دورها:
تلفتت المليحة وهي تزهو
وقالت: قد أطلتَ من الثناء
(فمن أنا يا ترى). بالله قل لي
وعيناها تشع من الذكاء
(أرابي أنت؟) قلت: (أجل أرابي
ومن بلد الكرامة والاباء)
هي نفسها تحلم بعودة حبيب قريب إلى قلبها بعيد عن هاواي.. سافر ولم يعد.. تنتظره على أحر من الشوق وأحر من الشوك كحال جميع العاشقين الذين حيل بينهم وما يشتهون.. الفراق غربة.. والوحدة غربة..
(نداء العيون) أخذه كل مأخذ.. نسي كل شيء الا العيون والموج فيها يتحرك.. والأهداب كالسكاكين مشرعة للدفاع عنها.. كل ما في هذا النداء يفسر نفسه
أمست ليالي الهنا حلما تناجينا
واصبحت ذكريات الحب تشفينا
كنا خليلين في دنيا الغرام وقد
اضفت علينا من النعمى أفانينا
نسقي حُميا الهوى في الكأس مترعة
ممزوجة بجنان كان يحيينا..
ولا يُغفل ملامحها في شعره.. صباها في بُردها القشيب.. عيونها المغرية بنظراتها.. دلالها الذي يزينه الخفر والعفة.. ومن نداء العيون إلى يد الساقي:
أيها الساقي أدر كأس الندامى
واسقنا من ثغرك الحلو المُداما
نحن بالحب سكارى ما افقنا
فلنقض العمر يا صحبي هياما
إنما أعمارنا يوم مضى
إن تَغبْ شمس الهوى يمسي ظلاما
أبيات تذكرني برباعيات الخيام الذي يقول فيها:
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا يأتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته..
فليس في طبع الليالي الأمان
(الحب المودود) له معه وقفة تدعو إلى الحزن.. والمراجعة:
رق قلبي.. ورق شدو قياني
ودعاني إلى الهوى ما دعاني
قهقه الدهر من ضلال مسيري
وانطلاقي وراء اهل المغاني
شاعرنا سراج اسرج راحلته وأخذ يحدد في صراحة ووضوح.. وندم. انه يصف الهفوة او الكبوة التي لن تتكرر في خيال شعره.. أو خبال شعره ان شئت
سادر الخطو ممعنا لا أبالي
كل شيء يهون دون الحسان
رُبّ ليل وصلته بنهار
ونهار بلونه ابلاني..
أنا يا ليل ناي حزن عميق
رنّ ايقاعه بكل مكان
ويلتفت إلى الصور المتحركة من حوله.. يرسمها كما لو كانت أشباحا متحركة يخشاها أو يتودد إليها:
أيها اللابس السواد دوما
انني انت في الأسى صنوان
قد وأدنا غرامنا وهو طفل
يا لعظم المصاب. والخسران
(استغاثة..) بعد هذا السعي الطويل بكل ما فيه من تداعيات.. وما يحمله من هم. وغم. وندم.. وما يشير إليه من صراع محتدم بين العاطفة والعقل.. بين لغة الضمير ولغة الغائب اتوقف بكم أخيراً مع استغاثة شاعرنا:
الهي ضاقت الدنيا بوجهي
وسدَّ الهم تفكيري. وحسي
تقلبني الظنون على أكف
فمن يأس يُطوِّح بي ليأس
في شكواه إلى ربه ضراعة وخشية وانابة. وتوبة.. فمن غياهبه التي ما لها صحو. وبكاء أمس عمره الذي ضاق به.. وفراغه القاتل الذي يقضيه. ودجى ليله الطويل.. وصبح لا مساء له.. ومغريات اجتذبته إليها ابادت صدره وساقته إلى الحماقة والرجس.. لكل هذا يستغيث.. يستمطر الرحمة في توبة وأوبة لا عودة عنها.
وحولي العزبات تبيد صبري
وتدفعني إلى حمق ورجس
لقد ملَّ الفراش طويل نومي
وضح الليل من همي وبؤسي
فأدركني الهي ان نفسي
تخاف اليوم من ويلات نفسي
أليست النفس أمّارة بالسوء.. بلى:
وبعد لشاعرنا حسين عبدالله سراج الجزيل من الشكر على امتاعه واشباعه لنا جميعا من خلال رحلة أروع ما في شعره وكله جميل الصدق مع النفس دون مكابرة.. أو تعال.. أطلق لحصان شعره العنان وتركه يطوي الأرض طيا يجمع في جعبته ما كان خيال شاعر.. وما كان دافع تجربة.. وهنا يتميز الوضوح من الوقوع في خطأ المعادلة الشعرية التي ترفض كل ما هو غير صادق وجميل.
يقولون اعذب الشعر اكذبه لأنه يستمد مادته من الخيال الأرحب مساحة وأفقاً من الواقع.
الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 - فاكس 2053338
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|