طه حسين: رائد العقلانية / الليبرالية العربية «1» هل (يستردّ) الفكر العربي طه حسين؟ د. عبدالرزاق عيد*
|
في سنة 1990م عندما بدأنا لفيف من الكتاب العرب نلتف حول المشروع الثقافي الفلسطيني الطليعي (عيبال) وجدنا أنفسنا مدفوعين تلقائياً لكي يكون عنوان مشروعنا التأسيسي لقيم: (العقلانية / الديموقراطية / الحداثة ) إنما هو طه حسين، فكان الكتاب الدوري الفصلي الأول الصادر تحت عنوان سلسلة (قضايا وشهادات)، وكانت هيئة التحرير تمثل حالة التنوع العربي (عبد الرحمن منيف، فيصل دراج، سعد الله ونوس، جابر عصفور)، إذ تجمع على حاجة المجتمع العربي لهذه الثلاثية: ( عقلانية / ديموقراطية / حداثة).
فكتب سعد الله ونوس مقدمة هذا الكتاب معبراً عن أن خيارنا لطه حسين ليس خياراً احتفالياً بمئوية ميلاده، بل إن الكتاب يأمل أن (يسترد) طه حسين ضوءا أو عوناً في هذه الظلمة التي نتخبط فيها (واستخدام فعل) يسترد (ليس إلا اعترافاً بأن ثمة انقطاعاً قد تم، وأن ثمة اصراراً على إلغاء مشروع طه حسين، القطيعة أو الانقطاع الذي يشير لهما سعد الله تتحدد بتاريخ يوليو (تموز) 1952 في مصر.
فمنذ هذه اللحظة سيتنزل العقل عن عقلانيته لصالح الأهؤاء، أهواء الإسلام السياسي الذي سيؤسس له السيد قطب من خلال إلغاء حق المجتمع في التشريع لنفسه باسم (الحاكمية الإلهية) وأهواء الخطاب الشعبوي الشمولي (القوموي) التي سيصف فيها الميثاق الديموقراطية (انها الديموقراطية المضللة التي تعتبر ملهاة مهينة)!
وعلى هذا فإن طه حسين وهو يستشعر خطر إطباق مطرقة حاكمية السيد قطب مع سندان الحاكمية الشمولية العسكرية على العقل والحريات والشرعية الدستورية، فإن العميد سيواجه مطرقة (الدولة الدينية) في التفاتة عقلانية فذة إلى التراث من خلال (الفتنة الكبرى) معرياً الماضي من الأثواب الكهنوتية للمقدس ليستجلي من وراء غلالته السحرية التاريخ الواقعي، بوصفه تاريخاً بشرياً لا يمكن استكناه مغزى صراعاته وفهمها وتأويليها إلا وفق منطق العقل، ولا يمكن وقف أنهار الدماء التي صنعت فتنة السياسة مجراه إلا بالتوافق البشري العقلاني حول (العقل الاجتماعي).
وليواجه سندان شعبوية الخطاب الشمولي العسكري ب(تحرير العقل) إذ كتب تحت هذا العنوان في يناير (كانون الثاني) 1953 - الشهر نفسه الذي صدر القرار العسكري بوأد الديموقراطية أي: قرار حل الأحزاب السياسية - وذلك في مجلة الكاتب، يقول: (فمصر لا تحتاج إلى شيء بمقدار ما تحتاج إلى ان تحرر عقول أبنائها... والعقل الحر هو الذي لا يقبل أن يفرض السلطان السياسي عليه رأيا من الآراء ومذهباً من المذاهب... والعقل الحر هو الذي لا يقبل ديكتاتورية مهما يكن غرضها ومهما يكن أسلوبها في الحكم. لن نرضى من الثورة إلا بأن يتسع سلطان العقل حتى يغزو بالمعرفة نفوس المواطنين جميعاً، وبأن تتسع آفاق العقل حتى يتلقى المعرفة من أقطار الأرض جميعاً، وبأن يعظم سلطان العقل حتى لا يخشى رقيباً حين يعلن ما يرى خطأ كان أم صواباً).
والخطاب الشعبوي - لا عقلاني بالضرورة - هو خطاب لملمة، خطاب بياني تكمن حجته في بداهة مقولاته أي إنه - تعريفاً -هو ما برهانه قائم فيه، بغض النظر عن التماسك النظري الداخلي، أو وحدة العقل واتساقه والتفكير ونظامه والمنطق وانسجامه.
إذ هو - بسبب فاقته وبؤسه - يلم شتات آراء وأفكار سطحية مبعثرة ومتناثرة بغض النظر عن مصادرها ومرجعيتها وأصولها، ويلقي بها إلقاء كيفما تيسر، ويستند في قوة اقناعها وفاعلية رواجها على البلاغة البيانية للعسكر والمخابرات، ولذا لن نستغرب في عرمرم الاندفاعة: (الشعبوية / الثورية الفلاحية ) أن يرمى العقل الليبرالي الراديكالي المشبع بأرقى تقاليد قيم التنوير والنهضة والحداثة بأنه اقطاعي، كما سيفعل أحد مثقفي الثورة وهو د.
عبد الحي دياب الذي سيصدر كتاباً تحت عنوان (الاقطاع الفكري وآثاره) إذ لا يتردد في إعلان هذه (الحقيقة) يقول: (واعترافاً بالحقيقة نقول أن للدكتور طه حسين الفضل كل الفضل في وجود الاقطاع الفكري في الجامعة فهو منشئه ومبديه وحارسه وراعيه...(1)
ولا أدل على أن هذا الدكتور ( الثوري اليوليوي ) يستخدم مصطلح (الاقطاع) في سياق الهجاء السياسي والإدانة والإقصاء، وإلا لو أنه يدرك الدلالة العلمية للاصطلاحات، لكان عليه أن يفهم أن مشروع طه حسين الليبرالي التنويري على درجة من الراديكالية في دك بنية الاقطاع ما يجعله مشروعاً ثقافياً ليس متجاوزاً للاقطاع فحسب بل ويتجاوز حتى أرقى آفاق (البورجوازية) المصرية وليس اقطاعييها، لكن ثقافة التسطيح والعموميات الغوغائية المعبرة عن ضيق أفق حثالات المدن ورعاع الريف التي تنفث على المحلقين طيرانهم الحر نحو الأعلى لأنهم لا يزالون ملتصقين بطين العالم السفلي.
حتى لتغدو (ثورويتهم) ظلامية ورجعية أمام المشروع التنويري لطه حسين، هذا المنظور التسطيحي الغوغائي الشعارائي يصوغ لنفسه تصورات عن (النضال) يستعيرها من عوالم ما توارثه من قيم الثقافة التقليدية التي تتفاءل بالسكون وتقلقها الحركة وتمجد الثابت وتسفه المتحول، ولذا فإن دكتور (الثورة) ينعى على طه حسين (عدم ثبات الرأي)، فهو من حيث (السياسة لم يثبت على رأي ولم يمكث في حزب بل كان يعتنق الحزب الحاكم دائماً... ومن حيث الأدب لم نقف له على مبدأ نقدي... بل إنه ليتميز بأن يقول الرأي اليوم ليرجح عنه في الغد.... فهو ليس له رأي ثابت في أية مشكلة معاصرة في الأدب والنقد...)(2)
إن ذروة المفارقة المأساوية التي يعبر عنها هذا ( الخطاب الثوروي ) أنه ينعى على طه حسين (اقطاعيته)، في حين أن النواة الابستمية لهذا (الخطاب الثوروي) هو الدعوة إلى الثبات بوصفه معياراً عقلياً، في حين أن الثبات الذي يدعو إليه دياب تعريفاً: هو المعادل المعرفي لرؤية العالم من منظور سكونية العالم الأرضي في المجتمع الزراعي (الاقطاعي) بوصفه محكوماً برعاية عيون السماء التي تحكم الكون (كون ماقبل كوبر نيكوس).
بل إن المفارقة الموجعة أن تلحق بطه حسين صفة (الاقطاع) وهو صاحب شعار عمره الثقافي فكراً وممارسة (التعليم كالماء والهواء للشعب) الذي بشربه في كتابه التأسيسي لمجتمع مدني حديث (مستقبل الثقافة في مصر) تحت الدعوة إلى مجانية التعليم، ومسؤولية الدولة، والتلاحم العضوي بين الديموقراطية ومجانية التعليم.
وظل يزود عن موقفه هذا حتى غدا هذا الشعار فكراً وممارسة في كل البلاد العربية قبل أن يغادر عالمنا.
إن المستوى الآخر لمنظور أهواء الخطاب الشعبوي الذي سيضيع طه حسين، والذي حرضنا في منتصف التسعينات لاستعادته ( استرداده )، هو منظور الخطاب (الاشتراكي / الشيوعي الرسمي)، متمثلا بأبرز تعبيراته في حقل نظرية الأدب، وهو كتاب لا في (الثقافة المصرية) الصادر عام 1955، لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس.
كان كتاب (في الثقافة المصرية) يؤسس منظوره في نقد العميد إلى استعلاء مضمر ينطلق من قناعة أن منظومة طه حسين الليبرالية هي منظومة متجاوزة من منظور التاريخية الماركسية، وبالتالي فهي دون (الاشتراكية)، بغض النظر عن السياق التاريخي في درجة حضور الليبرالية أو الاشتراكية في النسيج السياسي والثقافي المصري أو العربي، فيكفيك أن تكون (اشتراكيا) أو تعلن شعار الاشتراكية لتكون أكثر (تقدمية وثورية) من الآخرين.
وعلى هذا فإن الشابين (العالم - أنيس) في حينها هاجما على الشيخ العميد، وهما معتمرا الصدر ب(الإيمان) بأن قضيتهما أكثر عدالة، وأن منهجهما (الماركسي) يفترض تاريخياً أنه أكثر تقدماً من المنهج الليبرالي، بل هو ينقده ويفنده وسينتصر - حتمياً - عليه، فمن باب أولى أن تمثل منهجية كتابهما علو كعب على منهجية طه حسين التي اختزلت كتابه الراهني في وظيفته المعرفية التربوية والإجرائية حتى اليوم (مستقبل الثقافة في مصر إلى مجرد سطور غامضة) (3).
في حين لا يزال الواقع الثقافي العربي اليوم دون مطمح طه حسين في كتابه المذكور.
بل إن منهجه الذي أقام الحياة الثقافية في مصر ولم يقعدها منذ ثلاثين سنة هي تاريخ صدور كتاب (في الشعر الجاهلي) 1926 التي تفصله عن كتاب العالم وأنيس (في الثقافة المصرية) الصادر 1955 سيغدو منهج العميد - بالنسبة للشابين الماركسيين - قاصرا في فهم (هذه العلاقة بين صورة الأدب ومادته، بالإضافة) إلى ما يتميز به أدبهم من جمود، وانفصال عن حركة الحياة، وإلى ما رسبوه في وجداننا القومي من قواعد نقدية فجة لا تفضي بالإبداع الغني إلا إلى أزقة مقفلة.... (4).
هذه المثالب التي يتقصاها كتاب (في الثقافة المصرية) في فكر ومنهج طه حسين، إنما تعكس مدى شدة الانحيازات السياسية والايديولوجية المسبقة، حيث منهجية كتاب (العالم - أنيس) تتوسل المادية التاريخية (الماركسية) بنموذجها المدرسي (المسفيت) التي لا تتقبل أية رؤية للتاريخ ما دامت لا تخضع لشروطها (الحزبية: حزبية الفلسفة)، وعلى هذا سيغدو طه حسين مكتشف قارة التاريخ في الفكر العربي الحديث عاجزا عن إدراك العلاقة بين الأدب ومادته، بسبب جمودة وانفصاله عن حركة الحياة، وهو الذي في أطروحة الدكتوراه (تجديد ذكرى أبي العلاء) سنة 1912 وقيل رحيله إلى أوروبا، يحدد منهجيته بوصفها منظوراً: يرى الحادثة التاريخية بالتناظر مع القصيدة الشعرية والتوازي مع الخطبة والرسالة، أي (الخطاب الأدبي عموماً) تحضر كلها كعناصر متساوية في نظام الخطاب مثلها مثل الحوادث التاريخية بمثابتها (نسيجاً من العلل الاجتماعية والكونية يخضع للبحث والتحليل خضوع المادة لعمل الكيمياء)، إذن إن كل أثر مادي أو معنوي أو ظاهرة اجتماعية أو كونية ينبغي أن ترد إلى أصولها وتعاد إلى مصادرها....) (5)
هذا المنظور التاريخاني المبكر الذي يومئ إلى صلة واضحة بمنهج تين، سيكون شاغل حسه وعقله التاريخي، عند رحلته إلى أوربا، وذلك عندما سيقوم بإماطة اللثام العربي والاسلامي عن مكتشف قارة التاريخ الأول ابن خلدون، وذلك من خلال رسالته (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) التي أراد من خلالها - رغم أن ايفاده إلى فرنسا لم يكن للبحث الفكري السوسيولوجي - أن يعرف بمفكر لا يعرفه جيداً سوى المستشرقيين.... (6).
إن مراجع تاريخانية طه حسين قد نلتمسها لدى أوجست كونت - دور كهايم - ديكارت - ليفي برول....إلخ وليس لدى المادية التاريخية المدرسية الماركسية، ولهذا فقد كان عليه أن يؤثم من قبل الماركسيين، كما كان قد أثمته مدرسة يوليو، وكما كان قد اثمه من قبل الأزهر، رغم أن التاريخانية ولدت ونمت وتطورت قبل الماركسية، إذ أن الفكر التاريخي هو أكبر ثورة ذهنية عرفها العقل الانساني حسب ليوبولدفون رانكه.
وعلى هذا فإن الخطاب الفلسطيني الذي طالما راهن على الخطاب (العروبوي - القوموي - السلاحوي) في (قومية المعركة) مع (الكيان الصهيوني) منذ ثورة يوليو حتى (أم المعارك)، سيعلن على انقاض هذه الخرائب (القوموية)، بلسان أحد مفكرية (فيصل دراج) في الكتاب ذاته تحت عنوان: (الشيخ التقليدي والمثقف الحديث) إن الأفكار تكشف عن حدودها في حقل الممارسة، لا في حقل التأويل وفض النصوص والتدليل الفكراني..... وعلى هذا: لا يمكن السؤال في كيفية تجاوز طه حسين، بل في تجاوز الفكر الذي ظن أنه تجاوز طه حسين، لأن دعوة التجاوز الأولى تخطئ في وعي التاريخ الذي انتج طه، وتأمر بممارسة مجردة مغتربة عن التاريخ بينما تجلت أهمية طه حسين في صياغة العلاقة الصحيحة بين المفهوم النظري واللحظة التاريخية. لا يمكن تجاوز فكر طه حسين، إلا بعد قبوله والتعرف عليه والاعتراف به.(7)
..........................................يتبع
*ناقد ومفكر سوري
(1) - الاقطاع الفكري وآثاره - عبد الحي دياب - دار الشعب - بلا تاريخ - ويرجح أنه صدر عام 1963.
(2) - المرجع السابق.
(3) - في الثقافة المصرية
(4)- المصدر السابق
(5) - تجديد ذكرى غبي العلاء ص 19 - 20.
(6) - فلسفة ابن خلدون الاجتماعية - المجلد الثامن - دار الكتاب اللبناني - ص 167 .
(7) - كتاب طه حسين - قضايا وشهادات - ص 63 - 64 .
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|