على مَن تتلو مزاميرك؟
|
المكرم الأخ الأستاذ إبراهيم التركي
سلامٌ من القلب في البدء مع كل تقديري ومحبتي..
أشجاني وأحزنني أستاذي محمد جبر الحربي في زاويته (أعراف) في (المجلة الثقافية) العدد 126 في السابع من رمضان، وكان العنوان الفرعي لزاويته في ذلك العدد (الإعلام وحزن الحجيلان)، وعلى الرغم من أن أبا جبر يتعاهدني بالشجن في كل عدد جديد من المجلة، فيزيدني تعلقاً بأعرافه الشجية والمتقنة دائماً من وعيه وضميره وقلبه وفكره، إلى حد أنني أعتبره أجمل المحرضين لتلافيف قلبي - إن وجدت له تلافيف كما العقل، وأحسبه كذلك - لئلا تقع في الخدر اللذيذ؛ فالغفلة التي قد تأتي على حساب الإنسانية.
على الرغم من ذلك، فإنه في ذلك المقال جاء - حسب ما تلقيته - ليقدم شجناً مضاعفاً في إشارته إلى ما أسميه (التبلد التعليمي) حين ذكر أن (عباقرة التعليم لدينا، وفي كل المراحل، ممن لا يرون أبعد من أنوفهم، بل يرون أنه من العيب الاطلاع على أي شيء خارج مناهجهم التي مضت عليها عقود تيبسوا من خلالها في مقاعدهم بعيداً عن الناس والحياة والمتغيرات)، وقال إنه يعرف أكاديميين ومعلمين للأدب العربي لا يعرفون أي شيء عن المشهد الثقافي منذ السبعينيات الميلادية إلى اليوم.
وهو هنا يتعرض إلى قضية مهمة قليلاً ما نوقشت، وقليلاً ما تم التعرض لها من قبل الكتّاب، وإن تم ذلك فإنه يحدث بشكل (طبطبة على الكتف) تتلوه (تطييبة خاطر، والسلام) فالتعليم لدينا، وعلى الرغم من أهميته القصوى، إلا أنه حتى اليوم يظل خاضعاً للنمطية وللنمطيين، وللتقليدية وللتقليديين.. وتبعاً لذلك فمناهجه كلها تقليدية، لم يخضع لأي تجديد معتبر منذ أن كنت تلميذاً في الابتدائية حتى صار ابني تلميذاً بها.. وقد خرجنا من القرن العشرين إلى الواحد والعشرين والمناهج هي المناهج، وإن حدث بها شيء من التغيير فهو شكلي في عمقه، عديم جدوى في أثره، ومن يتولون تدريس تلك المناهج هم من تخرجوا على يدها، وفي الأغلب اكتفوا بحفظها عن ظهر قلب حينما كانوا طلبة وقدموها على ظهر فكر حينما أصبحوا مدرسين، أي أن أغلب من يقدمون تلك المواد هم أساساً خريجو التقليدية الفادحة، ومن تأصلت فيهم حتى النخاع، فلا أمل من أن يخرجوا قيد ذرة عن حدودها، ومن ثم لا يمكن أن نتوقع منهم أي إضافة جميلة لفكر ولذائقة أبنائنا الذين يتلقون من الحياة دروساً أجمل وأعمق وهم في بيوتهم، وقد يتم تخريبها في المدرسة ومن قبل مدرس يحذر من قراءة أي كتاب خارج المنهج وخارج مكتبة المدرسة المغبرة، باسم حماية النشء من الفكر الضال!
لقد أشجاني أستاذي الأنبل أستاذي الذي تلقيت على يد فكره وقلبه دروس وعي، وهي دروس كان من المستحيل أن أتلقى شيئاً مثل وهجها حين عهدي بالمدارس؛ لأنه بإشارته إلى هذه القضية، مثل من يبرئ ذمته ويخلص ضميره بصدق وإخلاص ووجع، إذ إن كل الأحوال من حوله تقول إنه لا أحد يقرأ أو يرى أو يتقبل، ممن يسمون قائمين على الأمر وبأيديهم الحل والربط، وهم سيظلون يقاتلون ضد أي تغيير أو تجديد؛ لأنهم يرون في ذلك تهديداً لراحتهم واطمئنانهم وسينغص عليهم لذة مضاجعهم في أروقة مكاتبهم وفصولهم! وأتذكر هنا أنني قرأت في مجلة (المعرفة) التي تصدرها وزارة التربية، وتناقض نفسها من خلالها، كتابة لأحد الإخوة قال فيها للمدرسين: (لا تطفئوا مشاعل العقول، حيث يأتي كثير من الأطفال إلى المدرسة، وهم يتوقدون ذكاء ويشتعلون حماساً ويفيضون حيوية، ولديهم استعداد كبير للإبداع والتميز، ولكنهم يقعون في أيدي مدرسين يرون في حب الاستطلاع وقاحة، ويعتبرون النشاط الزائد إزعاجاً، ثم يسكبون على هذه الجذوة ماءً بارداً، يحيلها إلى فحمة سوداء)، وهذا هو الواقع المؤلم لحال التعليم لدينا، إنه قتل دائم لأي بادرة إبداع، أو خروج عن سرب التقليدية المزدحم حتى الاختناق.
لقد حاول الأستاذ الكبير إبراهيم البليهي في كتابه الموسوم ب (وأد مقومات الإبداع) الذي طبع - ويا للغرابة القصوى - من قبل مجلة (المعرفة)، أن يفعل شيئاً إزاء التبلد التعليمي، من خلال عدد كبير من الأطروحات الضميرية الرائعة في ذلك الكتاب التي تناصر الإبداع، وتبرز مقوماته، التي يتم وأدها من قبل التقليدية وأحزابها، لكن الوزارة لم تتبع إيجابية طبع الكتاب بأي إيجابية تفعيلية له، ولما جاء فيه، بل إننا لا نكاد نجده في أي مكتبة مدرسية إلا ما ندر!
أختتم كتابتي هذه بعودة إلى ما كتبه أستاذي وصديقي الحبيب محمد جبر، فأذكر أنه اختتمها بما أحزنني، حيث ذكر حقيقة أننا نعيش في واقع (خراب عربي عام، وانحسار لكل ما يمثل قيمة نظيفة وعالية أمام تنامٍ مطرد لكل ما هو تافه وجاهل ورديء ومخجل)، وسرّ حزني ليس عصياً، فمردّه أنه بالفعل هناك خراب مستطير، وهناك تجهيل دائم للفكر وللوجدان، يتم في أحيان كثيرة في دور التثقيف والاستنارة أو ما يفترض أن تكون كذلك، تلك الدور التي لم نعد نتوقع منها أي فائدة في مصلحة الثقافة الفكرية والثقافة الوجدانية. سرّ حزني يعود إلى أنه على رغم هذا الخراب، فإنه يمكن القول: (على من تتلو زبورك يا داود)؟!
محمد صلاح الحربي
www.mdaalbhar.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|