الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
الكذب خلق مذموم كله، يهدي إلى الفجور، والإسلام حارب الكذب وتصدى له، وعده من خصال الكفر أو النفاق، باعتباره أصل كل فساد، ورأس كل خطيئة.
«الجزيرة» ناقشت قضية الكذب التي تفشت في عصرنا الحاضر، وأضحت ظاهرة خطيرة، ومرضاً عضالاً عند الكبار والصغار.
خطورة الكذب
يقول الدكتور محمد بن عبدالله السحيم عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض سابقاً: إن الكذب يعظم أثمه بعظم أثره، فالكذب على الله ليس كالكذب على سائر الخلق والكذب على الرسل والأنبياء - عليهم السلام - ليس أيضاً كالكذب على سائر البشر، وكذلك الكذب الذي ينتشر بسرعة ويعم الآفاق إما بسبب الموضوع أو بسبب الزمن المتعلق فيه أم بسبب الشخص الذي يتناوله الحديث، حيث جاء في الحديث الوعيد الشديد على الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ويطير خبرها، كما قال: أتاني الليلة آتيان وإنما ابتعثاني وأنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما إلى أن قال: فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخرُ قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيُشَرْشِرُ شدقه إلى قفاه ومَنْخِرَه إلى قفاه، وعيناه إلى قفاه، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح الجانب الأول كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى، قال: قلت سبحان الله ما هذا؟ إلى أن قال: وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخراه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. ولا شك أن الكذب اليوم على الولاة والعلماء وذوي الشأن مما تطير به وسائل الإعلام وشبكة المعلومات حتى يبلغ الآفاق.
ولو علم الإنسان خطورة الكذب وعظيم مغبته، لاجتهد في أن يجتنبه ويلزم نفسه باجتنابه والحذر منه لئلا يكتب عند الله كذاباً.
وشدد د. محمد السحيم على أن الأسرة المسلمة مطالبة أن تربي أولادها على الصدق، وليس غيره، حتى يكتبوا من الصديقين، فإن العبد لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، فيلزم الصدق في مخبره ومظهره، وفي قوله وعمله.
ومما ينبغي أن نتفطن له أن كثيراً من الناس قد يظن أن الكذب مقصور على الحديث، وهو أعم من ذلك، فكل إخبار مخالف لما وقع داخل في الكذب، سواء كان ذلك في الحديث أو في التقارير المكتوبة أم شهادات المطابقة والاستلام، أم في تقارير تقويم الأداء بل قد يجتمع في هذه الكذب وظلم الآخرين وخيانة الأمانة وغش الولاة وغيرها من الموبقات.
أقبح الأخلاق
يشير الدكتور علي بن يحيى الحدادي الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إلى أن الكذب من أقبح الأخلاق وأسوئها، وقد كانت العرب تمقته في جاهليتها، وجاء الإسلام فأقر ذم الكذب ونفر عنه. قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الكذب ليهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) متفق عليه.
وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض خصال المنافق فذكر منها أنه إذا حدث كذب كما في الصحيحين.
ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه - ورؤيا النبيين حق - رجلا ملقى على قفاه ورجلاً قائماً عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثلما فعل في المرة الأولى. وحين سأل عنه قيل له: هو الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) رواه البخاري.
ذلة ومهانة
وشدد د. علي الحدادي على أن الكذب منشأ لكثير من الأخلاق السيئة كالخيانة والغدر والفجور والجبن والبخل، والكاذب لا يوثق بوعده إذا وعد، ولا يصدق في خبر إذا أخبر؛ فالكذب ذلة في الدنيا ومهانة، وإثم وعذاب يوم القيامة؛ فاحترسوا من الكذب وعليكم بالصدق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)، وإننا إذ نجد في كثير من الناشئة استمراء الكذب وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خلل كبير في التربية، وأنتم مسؤولون عن أبنائكم في تربيتهم صغاراً، وأنتم أيها الأبناء مسؤولون عن تربية أنفسكم إذا بلغتم سن التكليف، فهب أن أسرتك قصرت في تربيتك صغيراً لكنك بعد التكليف مسؤول عن نفسك ومؤاخذ بأقوالك وأفعالك، فاتقوا الله واجتنبوا أسباب سخطه ونقمته.
يقول تعالى: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) قال ابن عباس: يريد لا تحلفوا، وذلك أن كثرة الحلف بالله قد يترتب عليها كثرة الحنث باليمين وعدم الوفاء بها، وكثرة الحلف أيضاً دليل على الاستخفاف بقدر اليمين وعظمة المحلوف به سبحانه، هذا إذا كان الحلف بالله صدقاً فما ظنك بمن يحلف به كذباً، وقال إبراهيم النخعي: (كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار) وذلك حتى يتهيبوا الشهادة، والعهود والأيمان فلا يقدموا عليها إلا عند الحاجة الماسة، والحلف بالله كذباً من كبائر الآثام سواء تعلق بها حق آدمي أم لا، وإن أخذ بها حق آدمي فهي أعظم، كما يجب على المسلم أن يكون صادقاً في حديثه فيجب أن يكون متثبتاً في نقله للأخبار، ولا سيما في زمن الأهواء وكثرة القيل والقال، قال - صلى الله عليه وسلم -: (كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع) رواه مسلم، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، فأرشد سبحانه إلى قبول خبر الثقة المجرب في صدقه وأمانته وأمر بالتثبت عند نقل الفاسق لأن الغالب عليه الكذب وعدم تحري الحق والصدق، وتناقل الإشاعات وترويجها هو من هذا الباب الفاسد الذي ينبغي للمسلم أن يتجنبه حتى لا يقع في الإثم.
الكذب عند الأطفال
وتؤكد الدكتورة إكرام رابح عياد استشارية طب الأطفال بالرياض أن كذب الأطفال من المشاكل التي يجب علاجها بشكل مبكر لدى الطفل، ويلعب الوالدان الدور الأساسي في زرع الصدق عند الأطفال بالقدوة الحسنة، فتحلي الوالدين بالصدق هو المثال الأول والأعلى الذي يفهمه الطفل، ومع مرور الوقت لا بد أن يعرف الطفل مفهوم الصدق والأمانة خلافاً لمفهوم الكذب، مشيرة إلى أهم أسباب الكذب عند الطفل، ومنها: اللعب مع الأبوين، واعتقاداً من الطفل أن الكذب شيء مضحك، وللسيطرة على الوضع، ولتجنب عقاب الوالدين، ولاتهام شخص آخر، وبسبب الخوف أو القلق، والغيرة، ومن دافع كذبة بيضاء لا تضر، وتقليداً للكبار، ولكسب تعاطف المحيطين.
طرق العلاج
وتوضح الدكتورة إكرام رابح عياد استشارية طب الأطفال بالرياض طرق علاج سلوك الكذب عند الأطفال: كون الوالدان قدوة حسنة أمام الطفل فلا يجب أن يقعا في الكذب مطلقاً، ومعرفة دوافع الكذب عند الطفل قبل أن يتحول لكذب مرضي، وتعزيز قيمة الصدق وقول الحقيقة عند الطفل من خلال اللعب وقراءة القصص، وإثابة الطفل على قول الصدق لإعطائه دافعاً في أن يكون صادقاً دائماً، وتعويد الطفل على الاعتذار عن الكذب، وعدم تقبل أعذار وان الكذب أمر مر فوض مطلقاً دون أسباب، وتجنب الانفعال الزائد كرد فعل لكذب الطفل، والتفاهم مع الطفل برفق، والاهتمام باختيار الطفل لأصدقائه أن يكونوا صالحين، فصديق السوء يدفع صاحبه إلى الكذب وتصرفات أخرى مرفوضة، واستشارة الطبيب النفسي المتخصص لوضع توصيات مناسبة للتعامل مع مشكلة الكذب عند الأطفال.
دراسة استطلاعية
وأفصحت دراسة أجراها باحثان سعوديان، أن 88% من المشاركين في الدراسة الاستطلاعية المعنونة بـ
«خطورة الكذب في المجتمع السعودي» يتأثرون بالكذب من خلال الزملاء والأصدقاء، و96 % يؤكدون أن الأسر وتربيتها ركيزة أساسية في تجنب الطفل ممارسة الكذب. وأفادت عينة الدراسة المتضمنة «1000» ألف فرد من الذكور والإناث الذين يمثلون مختلف شرائح المجتمع كعينة عشوائية شملت: دعاة، وأطباء، وأكاديميين، ومعلمين، وموظفين ومسؤولين في قطاعات مختلفة، وطلاب وطالبات من مناطق المملكة الثلاثة عشرة، والتي أعدها الباحثان: سلمان بن محمد العُمري، وعائض بن محمد العصيمي، بأن 72 % يعدون الكذب ظاهرة بارزة في المجتمع، ونحو 85 % يرونه مرضاً.
وأوضحت الدراسة أن الإناث يملن إلى الكذب أكثر من الذكور بنسبة 55 %، و93 % من المشاركين في محور الدراسة أنه يمكنهم اكتشاف كذب الآخرين من خلال حديثهم ومواقفهم، وأجمع 89 % من عينة الدراسة على أن الإنسان يمكنه أن يتخلص من آفة الكذب التي تعود عليها، وأن للمؤسسات المجتمعية كالمدرسة، والمسجد، والنادي وغيرهم أثر إيجابي في توجيه الأبناء وتحذيرهم من خطورة الكذب بنسبة 92 %، في حين يرى 58 % من عينة الدراسة أن هناك علاقة بين الكذب والحالة الاجتماعية.
وأبانت الدراسة أن 46% يرون أن الكذب في بعض المواقف نوع من الذكاء الاجتماعي الذي ينبغي أن يمارس، و42 % اتفقوا على أن الكذب يمكن أن يكون عند الطبقة العليا والمتعلمة أكثر.
وحول عدد مرات الكذب في اليوم للمشاركين في الدراسة الاستطلاعية جاءت الإجابات متفاوتة بين عدم الكذب، ونادراً، وكذبة واحدة فقط، ومرة إلى مرتين، ولا أحصيها من كثرتها، وحسب الظروف والضغوط.
وقد بلغت نسبة المشاركين في الدراسة من الذكور بلغت 49 % و51 % نساء، وأن أعمارهم جاءت بين 17 سنة وحتى 70 سنة.
وأكد الباحثان سلمان العُمري، وعائض العصيمي، على ضرورة ترسيخ مكارم الأخلاق في المجتمع، والعمل على وضع استراتيجية لتنفيذ برامج مشتركة للمؤسسات المجتمعية التي تعنى بمعالجة التصرفات والسلوكيات المشينة في المجتمع، ومنها: صفة الكذب وهو نقيض الصدق، لأن عواقبه مدمرة على الفرد والمجتمع، مشددين على أهمية التوعية والتوجيه للناشئة والشباب للحد من رذائل الصفات وقبائح الأخلاق، والتي حذرت منها تعاليم الإسلام، قال - عليه الصلاة والسلام -: «عليكم بالصدقِ، فإن الصدقَ يهدي إلى البرِ، وإنَّ البرَ يهدي إلى الجنةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يكتبَ عندَ اللهِ صِدِّيقًا، وإياكم والكذبَ، فإن الكذب يهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النارِ، وما يزال الرجل يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتبَ عندَ الله كذابًا» رواه البخاري ومسلم.
وبين الباحثان على أن الكذب صفة ذميمة تؤدي إلى إثارة المشكلات، وإيغار الصدور، والحقد والكراهية، مشيرين إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في زيادة حالات الكذب، وسهولة انتشاره، وتداوله بين الناس، وأن تلك الصفة الدنيئة ليست مرتبطة بأناس غير متعلمين أو أصحاب وظائف بسيطة أو مهن معينة، وأنه قد يكون للبيئة دور أساسي في اكتسابه ونموه، وهو مرض عضال لا خلاص منه إلا باجتثاثه لأنه باعث على نشر الإشاعة وما تؤديه من مخاطر على الفرد والمجتمع.