حمد سعد المالك
في بعض الأوقات، أحن للماضي فأرجع بذاكرتي إلى برامج تلفزيونية كانت تعرض في فترات حياتي الأولى، وكانت لها طابع خاص عندي. تركت بصمتها العميقة في وجداني ووجدان العديد من المشاهدين، ليس فقط بما قدمته من محتوى، بل بما حملته من معانٍ اجتماعية وثقافية. من بين تلك البرامج التي لا يزال صداها يتردد حتى اليوم، يبرز برنامج «مع الناس» و»بنك المعلومات». هذان العملان الإعلاميان لم يكونا مجرد مواد ترفيهية، بل كانا منصتين لنقل الواقع السعودي وإبراز هموم المجتمع ومشاركته المعرفة.
قصة «مع الناس»
أحد أعمدة البرامج الإعلامية السعودية الكلاسيكية، ارتبط اسمه بذاكرة المشاهدين منذ ظهوره الأول على الشاشة. كان يعكس نبض الشارع السعودي بطرحه لقضايا تلامس حياة الناس، ما جعله يحتل مكانة خاصة في قلوب الجمهور. انطلق البرنامج خلال فترة التحولات في المجتمع السعودي ليكون منصة لعرض قضايا المواطنين وإيصال صوتهم للمسؤولين، وسرعان ما أصبح جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة التلفزيون السعودي، بفضل طرحه الواقعي والتفاعل المباشر مع المسؤولين.
فكرة البرنامج كانت تقوم على تنظيم حلقات أسبوعية يزور خلالها طاقمه مبنى إحدى الجهات الحكومية. الهدف الأساسي من هذه الزيارات كان إتاحة الفرصة للمواطنين للتواصل المباشر مع المسؤولين. تستعرض الحلقات استفسارات وشكاوى المواطنين، ويتم الرد عليها من قبل المسؤولين، مما يتيح للمشاهدين فرصة الحصول على إجابات فورية حول مواضيع تشغل بالهم. هذه الفكرة أسهمت في تعزيز الشفافية وتقديم صورة واضحة عن كيفية عمل الأجهزة الحكومية في تلك الفترة. ويعتبر سليمان العيسى، الإعلامي اللامع والمقدم الرئيسي للبرنامج، رمزاً مؤثراً في نجاحه. لم يكن مجرد مقدم، بل كان الصوت الذي يعبّر عن هموم الناس، مُسلطاً الضوء على معاناتهم بطريقة مؤثرة وواقعية، حتى أصبح حلقة وصل بين المواطنين والإعلام، ليحتل مكانة خاصة في قلوب السعوديين.
بأسلوبه الهادئ والواثق، استطاع العيسى أن يكون صديقاً لكل بيت، ينقل الحكايات والقصص من كل مكان في المملكة ليشاركها مع المشاهدين. هذا الرابط الخاص بينه وبين الجمهور كان سر نجاح البرنامج حتى اليوم.
في لقاء صحفي نُشر في مجلة «المجلة» عام 1990، وضح العيسى -رحمه الله- كيف دخل البيوت السعودية من خلال برنامجه «مع الناس»، والذي بدأت فكرته في السبعينات. ويقول: «كنت أحرص أن أختار القضايا والموضوعات التي تهم الناس مباشرة، بعيداً عن التعقيد والتشويش. كانت القضايا التي نناقشها تعبر عن مشاكل المجتمع وتطلعاته، ولذلك حقق البرنامج قبولاً واسعاً بين المشاهدين». كما أشار إلى التحديات التي واجهها البرنامج، مثل محدودية الإمكانيات، لكنه رأى أن النجاح يكمن في التكيف مع التحديات وتقديم محتوى يمس قلب المشاهد.
أعيد البرنامج بحلة جديدة في 2021، يقدمه حامد دخيل، ليتناول قضايا معاصرة في ظل التحسينات التشريعية والإجرائية الشاملة التي شهدتها المملكة. يقول دخيل: «البرنامج كان موجوداً مع المواطن لأكثر من 25 سنة، اهتم بإيصال صوت الناس للمسؤولين والارتقاء بالخدمات الحكومية. ما يميزه أنه اجتماعي وتوعوي وترفيهي في الوقت نفسه، إلى جانب اهتمامه باحتياجات الناس وهمومهم».
«بنك المعلومات».. رحلة في أعماق المعرفة
«بنك المعلومات» يعد واحداً من أكثر البرامج المحبوبة لدى الجمهور السعودي. لا يزال يحظى بمكانة خاصة في ذاكرة الأجيال، وقد سعدت بمشاهدة بعض حلقاته عبر «قناة ذكريات» التي أبدعت في إعادة عرض هذا التراث الإعلامي القيم.
انطلق البرنامج في أوائل الثمانينات، وقدم محتوى معرفيًا على شكل مسابقات تثقيفية تغطي مواضيع متنوعة، مثل العلوم والتاريخ والأدب والجغرافيا. تميز البرنامج بتصميم مبتكر يشبه المسرح، حيث يجتمع مجموعة من المتسابقين للمشاركة في تحديات معرفية. كانت تقنية الحاسب الآلي، التي استخدمها البرنامج، تعد حديثة في ذلك الوقت، مما أضفى طابعًا عصريًا على البرنامج.
كما كان هناك تفاعل مع الجمهور، حيث يُختار متسابقون من بين الحضور للفوز بجوائز عينية قيمة. شدني في البرنامج المشاركون، الذين تميزوا بمستويات ثقافية عالية وأجابوا على أسئلة معقدة في زمن كان فيه الحصول على المعلومة ليس بالأمر السهل. هذا الأسلوب المسرحي جعل المشاهدين يشعرون وكأنهم جزء من الحدث، مما أضفى على البرنامج حيوية وتميزاً.
نجاح «بنك المعلومات» لا يمكن الحديث عنه دون ذكر مقدمه الإعلامي الأردني الدكتور عمر الخطيب، الذي بأسلوبه الهادئ تارة والحماسي تارة أخرى، حوّل البرنامج إلى تجربة تعليمية وترفيهية. لم يكن الخطيب مجرد مذيع، بل أشعر المشاهدين وكأنه معلم يشاركهم المعرفة بحماسة ووضوح. يقول الخطيب في لقاء له: «بنك المعلومات.. برنامج ينطلق من مقولة بأن هدفه الأساسي الإمتاع والتسلية وهدفه الثانوي هو المعرفة الموسوعية .. هذان العاملان الترفيهي والثقافي طريقتهما المميزة الاندماج الخلاق والمبدع.»
ختاماً، الإشارة إلى برامج مثل «مع الناس» و»بنك المعلومات» ليست مجرد استعادة للذكريات، بل استلهام من إرث إعلامي وثقافي ساهم في تشكيل الوعي المجتمعي وتعزيز التواصل بين المواطنين والمسؤولين. هذه البرامج قدمت نموذجاً لكيفية استخدام الإعلام كوسيلة للتأثير الإيجابي، حيث كانت تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية وتقدم المعرفة بطريقة ترفيهية ومبتكرة. استحضار هذا التراث يدعونا للتفكير في كيف يمكن للإعلام الحالي أن يتبنى نفس القيم، مستفيداً من التطور التكنولوجي لتقديم محتوى يخدم المجتمع ويعزز الهوية الثقافية.