قراءة - محمد محسن الحارثي:
لتداعٍ حر نحو قصيدة تعتنق ذاتها وتعي أنها الشكل اللغوي الأسمى الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يتحد مع الكون ويتحدى معضلاته؛ يجدر بنا البحث عن شاعر يمتلك القدرة على الإحساس بإيقاع الكون ويبرع في تركيب أصوات الحياة على هيئة مجاز وصور وشعور، ومن ثم الغرق في فضاء نصوصه.
قد يخال الكثيرون أنهم وجدوا ذلك في نصوص لا حصر لها حيث تداعت الصور بحريتها المطلقة وهيئتها المدهشة ولكنهم حال اقتفاء أثرها سيتنبهون إلى أنها قلما تركزت في تجارب شعرية بعينها.
لقد راودني الظن عينه غير أني لم ألبث أن وجدت ما يحقق ذلك التداعي في نصوص الشاعر السعودي عبدالله عبيان اليامي، ما أعاد إلى ذهني ذات الدهشة التي انتابتني حيال نصوص الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا في ديوانه «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» وإن على نحو مغاير يفسره اختلاف المنطق والمنطلق.
وفيما لو تعاطينا مع الشعر كحيلة نابهة لتوثيق عاطفة بعينها وحالة متفردة لصياغتها على هيئة شفيفة تَعبر من خلالنا لتُعبر عنا، فبوسعنا أن نرى حقيقته، وأن ندرك المقاربة التي أعني مع الأخذ في الاعتبار الفرق بين شاعر وآخر إلى جانب مراعاة أن نصوص عبيان تمثل جنساً شعرياً قائماً بذاته ومستقلاً وتنطوي على لمحات هادئة وخفية من ذاته، فمن خلال تدفق صور نابهة بنحوها الخاص واجتراحها صيغاً لغوية وترنيماتٍ ومفرداتٍ مبتكرة تقوم على الجناس والمحاكاة الصوتية، يتبع عبيان طريقة خاصة في بناء نصوصه الشعرية وفق معاييرٍ إبداعية وقياساتٍ شعورية دقيقة
لا يملك القارئ إلا أن يتواطأ معها مدركاً بأن الأفكار التي تعترضه وهو يقرأ نصاً شعرياً لعبيان إنما تضاعف إيمانه بالجمال وتضعف يقينه بما سواه إلى جانب ما تمنحه من نشوة، ولكن اقتفاء أثرها والصور الشعرية في نصوصه ليست مهمة سهلة إذ يلزمه أن يكون مترعاً بالجبال القائظة والقرى الدافئة وأحاجي البحر والطبيعة إجمالاً ومكتنزًا بالتقاليد والفروسية، وهو أمر يشبه بمن يسعى بحماسة إلى العوم فوق موجة ضخمة ليكتشف شعوراً مغرياً بالمجازفة غير أنك ستدرك في نهاية الأمر أن لقصائدهما ذات القوة والنضارة.
إن مبعث الألفة والانتماء اللذين ينتابانا حيال نصوص عبيان هو يقيننا بأنه خلق وسيلة إضافية لعيش الشعور واكتشاف الروح وإيماننا بأنه يراكم تكوين مخيلتنا ويستثير ميلنا الفطري لتأصيل المحبة لنحتشد بها وتستولي علينا ولإدراكنا أن مزاولته الشعر لا لأنه منقبة وحجة، بل لأنه قبس شعوري يضيء عتمة ما ينتابنا ويرينا إياه، كما هو ولذلك كان أسلوب عبيان كقدرٍ متعادل من اليأس والأمل والحزن والفرح والجوع والشبع، يحاكي تلك العبرات التي تنزلق على وجنتي طفلة مشردة وتتوقف على حافة فم يبتسم، كما كان نصوصه تلقياً متغيراً ومغايراً لما نتصوره حيال الحياة ينقلنا من تقريرية الواقع إلى شعرية المتخيل بسلاسة وذكاء فالصياغات اللفظية والتوريات والسعي إلى تجسيد الشعور ومّده بصور فوتوغرافية ورسوم غرافيتية وحشد المخيلة بمشاهد قمرية هي إحدى أميز السبل التي بدت جليةً في بنائه نصوصه، وقد استطاع من خلالها أن يمنح الحنين شكلاً قابلاً للإدراك وأن يُلبس الوجع بردة كبرياء وأن يطلو انكساراتنا بصبغة إباء، كما استطاع بشعوره الدافئ يحمينا من الصقيع الذي تلقي بنا الحياة نحوه وأن يبقي الشغف متقداً، حتى إذا ما خفتت النقاط المضيئة في أعيننا بقيت صوره براقة في أسفلها.
وفي إزاء هذه القدرة الفاتنة ثمة الكثير من الأفكار العميقة التي يباغتنا بها فما أن نرتخي ونستسلم لموسيقا كلماته حتى يفاجئنا بما يشبه الأجراس، ولذلك فليس بوسع المتأمل في نصوصه الشعرية أن يغادرها بذات الروح التي ولج بها إليها، بل سيغادرها متخففاً من وجعه ومثقلاً بالكثير من الوعي.
عبيان شاعر متدفق يضعك على أعتاب غيمة صباحية لتصافح زخاتها قبل انهمارها، ويملك القدرة على طرق الإيقاع الذي يتصل بالمعنى ويحاكي صورته، ورغم عذوبة إحساسه وبراعته في التقاط صور تتجاوز النص لتصفه كما هو بنبله وسخائه وسمته ونقائه وفطنته وذكائه وأصالته ووفائه إلا أن ألماً عائماً ووجعاً رقيقاً يكسو نصوصه ويسكن صوره، ولذلك وفيما لو كان لكل تجربة شعرية مقاربة في ثقافات أخرى فإننا إزاء نيرودا آخر وإن على نحو مختلف.