الموت طالب لا يعجزه المقيم، ولا ينفلت منه الهارب، فهو قضاء نافذ، وحكم شامل، وأمر حاتم لازم، لا مهرب منه ولا مناص.. يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجنَّة فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
نعم، الموت حق، والنفس المطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية مطمئنة.. ففي يوم الجمعة الموافق 26-4-1445هـ انتقل إلى رحمة الله تعالى ابني الشاب (ريان بن محمد آل بكر) بعد معاناته مع المرض الذي بدأ معه منذ أشهر.. وقد كان -رحمه الله تعالى - رغم مرضه محتسبا صابرا ولكن المرض تمكَّن منه، وفارق الحياة وهو في منتصف عقده الثاني بعد أن عاش حياة كانت مختلفة تمامًا عن الآخرين من الأقران والأصحاب (قيما وخلقا وطموحا وانضباطا). فبعد تخرجه من جامعة الملك سعود بتفوق تخصص (قانون) من كلية الحقوق والعلوم السياسية عام 1442 هـ.. زاد طموحه العالي ورغبته الجامحة على مواصلة تعليمه العالي لخدمة دينه ووطنه.. فغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنهل العلم والمعرفة من أعرق الجامعات الأمريكية حيث التحق بالبعثة بعد أن أتقن اللغة الإنجليزية لينضم إلى (جامعة واشنطن) فواصل تعليمه العالي في مجال تخصصه (قانون). وأنهى الفصل الأول بتفوق..
غير أنه وقبل بداية الفصل الثاني شعر بالتعب وبأعراض المرض وبعد التحاليل اللازمة اكتشف إصابته (بمرض السرطان)..!! وأصبح يتلقى العلاج بأخذ الكيماوي وهو يدرس، وقد كُرم بعد نهاية الفصل الدراسي لتفوقه مع مقاومته للمرض حتى أطلق عليه (المحارب الموهوب)..!!.
ورغم تعبه.. مع بداية مرضه لم يبّلغ أهله حرصا على عدم إزعاجهم وإشغالهم بالتفكير بوضعه الصحي.. وكان الأمر بينه وبين إخوانه . بّراً بوالديه وسعياً على راحتهم.. وما أعظم قيم البّر الذي لا يوفق له إلا من كان ذا حظ عظيم.
كانت تنشئة ابني الراحل ريان -رحمه الله تعالى- الدينية والتربوية والاجتماعية والأخلاقية تنشئة سليمة انعكست على بناء شخصيته المحبوبة من الجميع حتى أن زملاءه المبتعثين كانوا يثنون على علاقاته الاجتماعية الأصيلة وأخلاقه الفاضلة ورقي تعامله معهم، ومع أعضاء هيئة التدريس بالقسم في أمريكا فقد كان يحرص على أداء الصلاة والتمسك بتعاليم دينه ومبادئه التربوية حتى في أشد حالاته المرضية كان حريصا على عدم التكاسل عن أداء الصلاة وعدم تأخيرها، رغم ظروفه الصحية ومعاناته المرضية ولكنها القلوب السليمة والنفوس الصادقة مع الخالق العظيم.
كان -رحمه الله تعالى- مع والديه وأشقائه وأقاربه خدوما ودودا محبوبا بشوشا وقريبا من الجميع بارا بوالديه وواصلا رحمه مع أقاربه ومحبا للخير والإحسان.. كان يكثر الصمت لأن الصمت نصف الحكمة حتى زملائه في البعثة يذكرون أنه لم تصدر منه كلمة مسيئة أو زلة لسان بذيئة أو سلوكيات خارجة عن قواعد الضبط الأخلاقي والقيمي، بل كان هادئا.. ولطيفا.. باسم الثغر بنقاء سريرته وطيبته المتناهية.
عاش فقيدنا الغالي قويا صابرا شاكرا، يحمد الله على كل حال رغم شدة المرض والتعب، ولا غرو في ذلك؛ فقد كان -رحمه الله- ابنا صالحا ناصحا، صبر على مرضه طويلاً، ومع شدة السقم والمرض والابتلاء كان نموذجًا من الصبر والاحتساب والإيمان بقضاء الله وقدره.. لم تفارقه الابتسامة والبشاشة عندما كان والداه يزورانه وكل من أحبه من زملائه وأقرانه..
ولأن الإيمان - كما يقول (طبيب القلوب) الإمام (ابن القيم) رحمه الله - نصفان، نصف شكر، ونصف صبر، فقد كان الابن الراحل (ريان) كثير الشكر والحمد في كل حال.. ومتمسكا بحبل الصبر المتين بالذات مع بداية دخول المرض العضال جسده الطاهر.. ومع ذلك كان -رحمه الله- باسم الثغر، متسامحا، محبة لكل خير.. كان نموذجًا للخُلق الرفيع والقيم الدينية والأدب.. يحب مساعدة الغير بالعطاء والمشاعر والدعاء والقيم الإيمانية السامية التي نشأ عليها منذ طفولته في كنف والديه.. وفي آخر أيامه ومع شدة المرض الذي انتشر في جسده وأصبح بالتالي في غيبوبة لمدة تقارب العشرين يوما أو تزيد توفي في يوم الجمعة الموافق 26-4-1445 في الولايات المتحدة الأمريكية وهو في رحلة طلب العلم.. ومات ابني الغالي (ريان) مبطونا جعله الله عز وجل مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
اللهم اغفر لابني البار (ريان) وأفسح له في قبره مد بصره وتجاوز عنه وأكرمه برحمتك ورضاك وقهِ فتنة القبر وعذابه يا أرحم الرحمين. والحمد لله على قضائه وقدره.
** **
- محمد بن عبد الله آل بكر