لوْ كانَ يخلدُ بالفضائلِ فاضلٌ
وُصِلَتْ لَكَ الآجَالُ بِالآجَالِ
الذي انتقل إلى رحمة الله صباح يوم الأحد 12-5-1445هـ، وتمت الصلاة عليه بعد صلاة عصر الأحد في جامع والدة الأمير بندر بن عبدالعزيز بشمال الرياض، ثم حُمل جثمانه الطاهر وَوُوْرِيَ بمقبرة الشمال في أجواء حزن وتأثر على رحيله.
وكانت ولادته في بلدة أشيقر في إقليم الوشم عام 1350هـ، وقد كفّ بصره وهو ابن ست سنين بعدما أصيب بمرض الجدري، وألحقه والده عند الشيخ عبدالعزيز الفنتوخ لقراءة وحفظ القرآن الكريم في أشيقر، وبعد انتقال أسرته إلى شقراء أكمل حفظ القرآن الكريم عند الشيخ عبدالعزيز الحنطي. وفي عام 1360هـ افتتحت أول مدرسة في شقراء، وهي من أوائل المدارس في نجد - آنذاك - وكان المكفوفون لا يتم قبولهم في تلك المدارس، لكنه لحرصه على العلم كان يذهب كل يوم ويجلس بجوار المدرسة للاستماع للدروس. ولما رأى مدير المدرسة الأستاذ إبراهيم الجهيمان رحمه الله حرصه ومواظبته على الحضور اقترح عليه الدخول للمدرسة وأجرى له اختبار تحديد مستوى، ولما كان حافظاً للقرآن تم قبوله في السنة الثالثة، ودرس في تلك المدرسة السنتين الثالثة والرابعة. وبعد ذلك طلب من والده أن يذهب لطلب العلم في الرياض، وكان عمره خمسة عشر عاماً، فألفَى عند ابن عمه محمد بن عبدالعزيز المفدى، وسكن عنده بعض الوقت، ثم التحق بسكن طلاب العلم في «حي دخنة»، وانضم إلى حلق العلم عند الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، الذي أخذ عنه النحو في كتاب الأجرومية والفرائض في كتاب الرحبية، رحمهم الله جميعاً، كما حفظ في هذه المدة الكثير من المتون، ومنها: زاد المستقنع وبلوغ المرام وكشف الشبهات وكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العباد، وكُنت قد التحقت عام 1368هـ بحلق العلم عند المشايخ، وزاملت الفقيد في تلك الفترة، وكُنا نسكن في تلك البيوت التي أعدها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - لطلاب العلم، وذلك من عام 1365 إلى 1370هـ.
وفي أوائل عام 1371هـ انتقلنا معاً ضمن مجموعة من الطلاب إلى الطائف ملتحقين بدار التوحيد، ودرسنا السنة الأولى سوياً:
بلاد بها كنّا ونحن من أهلها
إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمانُ
بلدٌ صَحبْتُ بها الشبيبة والصِّبا
ولَبِسْتُ ثوبَ العمرِ وهْوَ جديدُ
وعندما افتتح المعهد العلمي بالرياض رجع الدكتور محمد، والتحق بالمعهد في السنة الثالثة (وأنا بقيت في دار التوحيد لدراسة السنة الثانية)، وعند إكمالهم السنة الثالثة في المعهد افتتحت كلية اللغة العربية، ولقلة الطلاب المسجلين فيها تم اقتراح أن يعمل لطلاب السنة الرابعة اختبار في الصيف حتى يتسنى دخولهم الكلية مع بداية السنة، وهذا ما حصل حيث التحق الفقيد بالكلية عام 1374هـ، وتخرج فيها عام 1377هـ كأول دفعة، وكان ترتيبه الأول على زملائه، وكُنت أنا ضمن الدفعة الثانية عام 1378هـ، ومن دفعتنا الزملاء: الدكتور محمد بن سعد بن حسين والأديب عبدالله بن حمد الحقيل وعبدالعزيز بن عبدالله الخراشي ومحمد بن صالح العميل رحمهم الله جميعاً.
وقد عُين الفقيد مدرساً للنحو في معهد الرياض العلمي منذ عام 1378هـ إلى عام 1382هـ، وبعد ذلك انتقل إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود، ودرّس مادة النحو والصرف فيها، ثم سافر إلى مصر ملتحقاً بجامعة الأزهر، وحصل على الماجستير عام 1388هـ، وبعد ذلك ابتعث لجامعة الأزهر للحصول على درجة الدكتوراه إلى أن حصل عليها في عام 1396هـ. وعاد إلى جامعة الإمام عضواً لهيئة التدريس وأستاذاً لمادة النحو والصرف، وقد تخرج على يديه الكثير من الطلاب إلى أن تقاعد عام 1417هـ، بعد ذلك تم التعاقد معه إلى عام 1428هـ. وبعدها أخلد للراحة بعيدًا عن العمل الحكومي بناءً على رغبته.
وكان طيلة عمله بالجامعة مثالاً للجد والالتزام في عمله مع لين جانب ونصح وإرشاد لطلابه، وقد تولى مناصب إدارية وأكاديمية لما عرف عنه من علم وحزم وهمة ونزاهة، حيث كان رئيساً لقسم النحو والصرف لمدة خمسة عشر عاماً منذ عام 1401 إلى 1415هـ. وقد أشرف على رسائل الطلاب في الماجستير والدكتوراه، وشارك في مناقشة عدد منها، كما اختير عضواً في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ست سنوات، وعضواً في لجنة الترشيح والاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي منذ عام 1397هـ إلى عام 1411هـ. وشارك في العديد من الندوات العلمية وإلقاء المحاضرات الثقافية داخل وخارج المملكة العربية السعودية، وله مشاركات صحفية وإذاعية، وألّف وحقّق العديد من الكتب. وقد وهبه الله الذكاء وقوة الحفظ، حيث حفظ القرآن في سن مبكرة، وحفظ الكثير من المتون، وكذلك حفظ الكثير من القصائد والدواوين الشعرية، شاكراً المولى ومردداً هذا البيت:
إِن يَأخُذِ اللَهُ مِن عَينَيَّ نورَهُما
فَفي لِساني وَقَلبي مِنهُما نورُ
ولي مع (أبي عبدالرحمن) الكثير من الذكريات منذ معرفتي به عام 1368هـ أيام دراستنا عند المشايخ الأجلاء حيث سكنا في دخنة، وتوطدت العلاقة فيما بيننا بعد ذهابنا لدار التوحيد بالطائف ودراستنا السنة الأولى سوياً قبل رجوعه للرياض في السنة الثانية، وبعد ذلك التحقت بهم في الرياض مواصلاً دراستي بالمعهد ثم كلية اللغة العربية، واستمرت علاقتي به طوال السنوات الماضية مع تبادل الزيارات واللقاءات؛ إذ إن سكنه مجاورٌ لسكن ابني الأكبر محمد.
لَعَمْرك ما وارى الترابُ فِعالهُ
ولكنّما وارى ثياباً وأعْظما
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم أبناءه وأسرة المفدى ومحبيه وطلابه الصبر والسلوان.
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء