الموت حق.. ومن المؤلم أن يفارقنا إنسان عزيز على قلوبنا، نحبه كثيراً ونستشعر بألم الفراق به حين تختفي بسمته، وتتوقف ضحكته، ونفقد كلماته الحلوة، وتغيب جلساته التي تبث روح السعادة في النفوس والوجدان. فيغادرنا في حضرة الموت، أو الزائر الأخير.. هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات، وميتم البنين والبنات..! دون سابق إنذار من دار الفناء، إلى دار البقاء.
فلا عجب إذاً أن الموت هو الحقيقة التي تقف أمامها البشرية عاجزة عن الهروب منه، وكما قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) الآية: (78) سورة النساء، لأن الخلائق جميعاً ما هي إلا ودائع وأمانات في هذه الدنيا فمتى ما انتهى أجلها أعيدت انطلاقاً من قوله تعالى: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) الآية: (34) سورة الأعراف.
في صباح يوم الخميس الموافق 18-4-1445هـ تلقيت خبر وفاة القريب الحبيب للقلب وخال الأبناء الأخ (إبراهيم بن عبد الكريم المنيف) بعد معاناته مع المرض عن عمر يناهز الستين عاماً - تغمده الله بواسع رحمته. كان أخي الراحل (أبو عبدالكريم) صاحب خلق رفيع وابتسامة عفوية دائمة.. نقي السريرة، ونظيف القلب الذي كان يتسع حباً للجميع بقيمه التربوية الفضيلة ومبادئه الأخلاقية الأصيلة.. أكسبت شخصيته المتزنة وروحه الاجتماعية العالية حُب الأقارب والأحباب وكل من عرفه عن كثب، لأنه كان -رحمه الله - يؤمن بمبدأ (ليس من الحكمة صناعة الأعداء)..! فكان بطيبته المتناهية وسلامة قلبه الطاهر يتجاهل.. ويسامح.. ويتنازل.. ويبتسم من أجل حبل المودة حتى مع أولئك الذين اختلف معهم في وجهات النظر..! ولا غرو من ذلك فقد نهل أخي الراحل من مدرسة والده الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن منيف - رحمه الله- العلوم التربوية والدينية والاجتماعية التي انعكست على بناء شخصيته البناء التربوي الأصيل والتنشئة الاجتماعية السليمة, كما عرف عنه -رحمه الله - برّه بوالديه وعاش معهما بعد زواجه، حيث كان يقوم برعايتهما والاهتمام بهما وحتى بعد وفاة والده حرص أكثر على ملازمة والدته المرأة الصالحة الناصحة (لطيفة الرضيان) -رحمها الله تعالى - فقد لازمها بعد وفاة والده في الثمانينات الميلادية ولأكثر من 30 سنة وكان يحرص على القيام برعايتها ومتابعة أوضاعها الصحية ويسهر على راحتها من باب البر والإحسان وكسب الأجر والثواب العظيم.
عرف عن فقيدنا الغالي - رحمه الله- حرصه على القيم الدينية والاجتماعية، حيث كان يحب الوصل في الأقارب والأرحام ويحرص على زيارة أشقائه وشقيقته وأرحامه حتى في مرضه وتعبه كان نموذجاً حياً ومضرب مثل في التواصل وصلة الرحم وأتذكر بعد إجرائه للعملية في المستشفى وخروجه بعد عدة أيام تلقى خبر وفاة الشيخ القريب عبد العزيز بن محمد الدرح -رحمه الله - فقام ورغم ظروفه الصحية بتقديم واجب العزاء في الفقيد ومواساة أبنائه! لله درك يا (أبا عبد الكريم) ما أروع قيمك الإيمانية الاجتماعية الفضيلة.. وأنت تعطينا دروساً في علو الهمة، وصلابة الإرادة والثبات على المبدأ من أجل الأعمال الصالحة.
في مرضه العضال الذي بدأ معه قبل عدة أشهر ضرب أروع معاني الصبر والاحتساب والثبات في معاناته المرضية. فكان يردد ويذكر فضل الله سبحانه عليه حامداً وشاكراً لخالقه الرحيم، حتى وبعد تردي حالته المرضية وأوضاعه الصحية لم يشتك هماً ولا حزناً لأحد..! بل كان يشكو بثه وحزنه إلى الله عزَّ وجلَّ وحتى ومع شدة المرض كان حريصاً على الصلاة ويسأل عنها.. لأن الصلاة معراج المؤمن وهي الصلة بين العبد وربه.. وما أعظم القلب عندما يتعلق بالصلاة فقد خصَّ الله تعالى المؤمن بالظل في رحمته وفي ظله يوم القيامة بالمحافظة والتعلق بالصلاة وجعل ثالث سبعة يظلهم الله سبحانه وتعالى بظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل قلبه معلق بالمساجد)، كان الفقيد -رحمه الله - يؤمن أن الإيمان (نصفان) نصف شكر والنصف الآخر صبر ولعل صبره على مرضه يؤكد عمق إيمانه وكثرة حمده لله عزَّ وجلَّ والثناء عليه والشكر له عزَّ وجلَّ في كل حال حتى مع ارتفاع درجة حرارة مرضه ومعاناته الصحية الحالكة، فترك لنا دروسا عظيمة في حسن الظن بالله والثقة به، والإيمان التام بأن المؤمن كل أمره خير كما قال النبي صلى الله وعليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
رحم الله أخي الحبيب القريب للقلب (إبراهيم المنيف).. الشخصية المهذبة التي كانت مكارم الأخلاق جسداً (تمشي) على الأرض.. وأسكنه فسيح جناته، وجعل ما أصابه من مرض وسقم تكفيراً للخطايا ورفعة في الدرجات تغمده الله بواسع رحمته.
** **
- خالد الدوس