هاتفني الدكتور الراحل عبد العزيز بن حمد المشعل -رحمه الله- في رمضان 1443 مثنياً على كتابي الصادر حينها «من وثائق محمد إبراهيم السبيعي» ومبدياً بعض المقترحات والتوجيهات حيال الوثائق المنشورة في الكتاب، ومتطلعاً إلى أن نلتقي لمناقشة محتوى وتجربة تأليف الكتاب، ودعاني حينها إلى تناول طعام الإفطار في بيته العامر، بحضور أنجاله الكرام، وكانت جلسة ماتعة، استمعنا فيها لتجربته الثرية في عالم الكتب والمخطوطات، وتعرّفنا على مراحل حياته العلمية والعملية والتجارية.
وقد تجرأتُ واستجمعت قواي، واقترحت عليه النظر في تدوين وتوثيق مسيرته الشخصية المتميزة، وتحليلاته الاجتماعية العميقة، وتجربته الثرية بجميع جوانبها الشخصية والاجتماعية والأكاديمية والاستثمارية والفكرية، وذلك في كتابٍ لطيفٍ يجمع بين التوثيق والتحليل، والتنظير والممارسة، والسرد القصصي المنتهي باستخلاص العبر والفوائد.
وقد استحسن الراحل د. عبد العزيز المشعل -رحمه الله - المقترح، وتحدث عن رغبته منذ سنوات في تدوين سيرته، وأفكاره، وأطلعني على المسودات والمحاولات السابقة التي حالت انشغالاته دون إتمامها، وأفصح لي ولأبنائه عن إحساسه بأن الوقت قد حان لتدوين المسيرة ومراجعتها وتنقيحها تمهيداً لنشر الملائم منها، وذلك حرصاً منه -رحمه الله- على نقل خبراته ورؤاه لأسرته ومحبيه ومجتمعه ووطنه.
وقد بادر الفقيدُ الراحل -رحمه الله - وأنجاله الكرام بوضع خطة منهجية لمشروع «توثيق السيرة العلمية والعملية للدكتور عبد العزيز بن حمد المشعل، وكلَّفوا فريق عملٍ محترفاً متخصصاً في التأليف والتوثيق والتحقيقات الصحفية، كما شكَّلوا لجنة إشرافية علمية، وبدأ الفريق بتنفيذ خطة العمل في أغسطس 2022م، وجرى تنظيم الاجتماعات مع الفقيد الراحل -رحمه الله- وقد منح الفريق الوقت اللازم للتسجيل، واستجاب بكل أريحية للمحاور التوثيقية، رغم الآلام والصعوبات، حيث كان في بعض الأحيان يشارك وهو في أمريكا يتلقى العلاج وكان طوال مرحلة التسجيل كعادته -رحمه الله- متحدثاً لبقاً قادراً على استحضار المواقف والأحداث التي مرت عليه منذ نعومة أظفاره، مروراً بمرحلة الشباب والتكوين العلمي والدعوي، وصولاً لمرحلة النجاح في عالم الاستثمار.
وقد تحدث -رحمة الله - بحبٍ وودٍ وعاطفة جيَّاشة عن والديه -رحمهما الله- «حمد بن إبراهيم المشعل و»طرفة بنت إبراهيم المشعل»، وروى لنا تفاصيل تربيته مع إخوته، وحكى لنا بعض مشاهداته الشخصية للتحولات السياسية التي صاحبت انتقال الحكم من الملك سعود إلى الملك فيصل -رحمهما الله- حيث كان يقطن مع أسرته في قصر الملك سعود بالناصرية حينها.
كانت عيناه تلمعان حينما وصل الحديث بنا عن فترة الدراسة في جامعة الإمام بمراحلها الثلاث (البكالوريوس، الماجستير، الدكتوراه) وتحدث عن زملائه وأقرانه ومشايخه بالتفصيل، وذكر أسماءهم، وخصائصهم، ومناصبهم الحالية، وكان شجاعاً وهو يسرد لنا بعض مواقفه الحادة في قاعات الجامعة، مشيداً بحسن تعامل مشايخه مع (فورة) الشباب، كما روى لنا عدداً من المواقف مع شيخهِ سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والتي على أثرها لقبه سماحة المفتي (بالنسائي الصغير)، وبدا لي فرحاً بهذا اللقب العلمي الذي ناله نظير براعته في مجال اقتناء المخطوطات.
وقد طاف بنا في ذكرياته عن جهوده في الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة داخل المملكة وخارجها، مستذكراً الموضوعات الجوهرية التي كانت تشكل خطابه الدعوي وهي «القيم الأخلاقية» والدعوة للتسامح وتعزيز الصلة الإيمانية مع الخالق سبحانه وتعالى،كما حدثنا عن جهوده في الدفاع عن مواقف حكومة المملكة العربية السعودية في الأزمات الدولية الكبرى خاصة في أعقاب غزو العراق للكويت عام 1990م، وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وغيرها من المواقف التي تجلت فيها وطنيته وظهر فيها اعتداله، وبرز فيها قلمه وفكره الوطني، وحسه المسؤول.
كان لافتاً لي في حديثه - رحمه الله- حرصه المستمر على القراءة والاطلاع والمتابعة للشأن الثقافي والفكري والشرعي منذ طفولته وحتى كهولته، وكان مُبهراً في استشهاداته بالمرجعيات الأصلية للموضوع محل النقاش، فهو مستحضرٌ للأدلة الشرعية إن كان الموضوع شرعياً، ومستوعبٌ للاتجاهات الفكرية المعاصرة إن كان الموضوع فكرياً، وواعٍ بالمدارس الفلسفية وتحولاتها إن كان الموضوع فلسفياً، وبارعٌ في المشهد الاستثماري إن كان الموضوع اقتصادياً.
وكان للراحل - رحمه الله- منظورٌ متميزٌ لفهم وتحليل الأشخاص والمواقف والأحداث والمتغيِّرات، يقوم هذا المنظور - وفق فهمي- على إعلاء قيم التسامح والحرية، واحترام التعددية الفكرية للأفراد والحضارات، ومراعاة حق الإنسان في التعبير، وإطلاق العنان للعقل في تقدير المصالح والمفاسد ومآلات الأمور في الجوانب الدنيوية، والبعد كل البعد عن صناعة الأعداء - قدر الإمكان-، وقد لخص فلسفته في الحياة بعبارة كررها قرابة الـ(5) مرات في جلسة واحدة وهي «ألف صديق خيرٌ من عدوٍ واحد».
شعرتُ أنه -رحمه الله- قد كوَّن لنفسه منظومةً قيمية متوازنة.
«عمادها».. الفهم الصحيح لرسالة الإسلام وثوابته الأخلاقية والروحانية..
«ودثارها».. الوعي المتكامل بالمتغيرات الجوهرية المعاصرة..
و»غايتها».. الإسهام في تحقيق السعادة والاستقرار للإنسانية..
كان الفقيد الراحل يمتلك حساً إنساناً نبيلاً، وكان -رحمه الله - معروفاً بالبذل والإحسان، وقد تولى أمانة مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية، وأسهم في تأسيسها وأشرف على خطتها الإستراتيجية، وكانت له اليد - مع أعضاء مجلس الأمناء- في وصولها لمكانة مرموقة، وانتشار واسع في الخدمات والمنتجات العلمية والخيرية.
قرأ د. المشعل الحراك الاجتماعي في المملكة العربية السعودية قراءة معمقة من جميع جوانبه وأبعاده، وكان يملك دوماً التفسيرات والتنبوءات الصحيحة أو القريبة من الصواب في غالب الأحيان حيال التحولات والتعامل مع المتغيِّرات والمستجدات، وقَدَّم عبر مجالسه وأحاديثه «فهماً» شمولياً للمراحل الجوهرية في الحراك الاجتماعي، وكان قادراً على تحليل سلوكيات فئات وطبقات المجتمع حسب تصنيفها الطبقي أو المناطقي أو الاقتصادي، وقادراً على رسم حدود ومجالات الإبداع ومساحات التحرك لكل فئة.
وإني أتطلع كما يتطلع كل محبي الثقافة والفكر إلى أن يولي أنجاله الكرام وإخوته الأفاضل -وهم بحول الله فاعلون - مسيرة والدهم د. عبد العزيز بن حمد المشعل -رحمه الله- الاهتمام الكافي واللائق بشخصية استثنائية قديرة، وأن يحرصوا كل الحرص -وهم كذلك - على تشييد منارة علمية ثقافية تحمل اسمه، وتخلد ذكراه وتستكمل مسيرته الثقافية، وتخدم اهتماماته في مجال البحوث والدراسات والمخطوطات، وتكون داعمةً للبحث العلمي ومُثرية للحراك الثقافي.
سائلاً الله له الرحمة والمعفرة والرضوان، ولذويه الصبر والسلوان و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- د. ممدوح بن محمد الحوشان