الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
في ظل المتغيرات الحديثة المتسارعة، ازداد عدد النساء المطلقات بالمملكة، حيث بلغ عددهن أكثر من 350 ألف سيدة، بحسب تقرير المرأة السعودية في 2022 الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء، مما يؤكد وجود شروخات خطيرة في الكيانات الأسرية، سيكون لها مضارها على الفرد والمجتمع.
والشريعة الإسلامية أولت اهتماماً كبيراً بالأسرة، وكل ما يتعلق بها؛ فجعلت أحكامها تحفظ الحقوق لكل الأطراف، وقدمت صورة مشرقة حتى في الطلاق بعدالة تشريعاتها السماوية، وقد وردت الوصية من الله -عز وجل- إلى كلا الزوجين بالفضل والإحسان إلى الآخر عند المفارقة..
«الجزيرة» استضافت عدداً من المختصين في العلوم الشرعية والقانونية والتربوية للتحدث حول تلك المشكلات ومآلاتها.
تصدع وتمزق
يؤكد الدكتور سليمان بن محمد النجران أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم أن الطلاق هادم البيوت، مقطع الأواصر، مشتت الأسر، مفرق الأحباب؛ فمن أعظم مقاصد النكاح بقاء عقد الزوجية دون انحلال، ولهذا احترز الشارع الحكيم من الطلاق، بوسائل مسبقة تحفظ عقد الزوجية دون انفراط، وتدرأ عنه كل فساد؛ فأقام له ميادين الإصلاح القبلية، ونصب له الحكام من جهتي الرجل والمرأة، لمجرد خوف الشقاق بينهما، قبل وقوع الفرقة؛ فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ}.
كما جعل لمجرد خوف النشوز من الزوجة ثلاث مراتب: النصح والموعظة، ثم الهجر، ثم الضرب الخفيف التأديبي غير المبرح، حفظاً للبيت من وقوع الفرقة، كما قال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}.
كل ذلك حفظاً لرباط الزوجية، من التصدع والتمزق والتشقق، ليبقى الأبناء والبنات في كنف ورعاية والدهم، وفي عطف ورحمة ومحبة أمهم، فلا يفقدوا أحد الأبوين، فتحفظ الأسرة من الفساد والشتات.
الرجل هو القائد، مناط به قيادة البيت، والقائد يتحمل ويصبر، ويوازن المصالح والمفاسد، ولا يعجل ولا يفرط ببيته، لأي مشكلة طرأت، أو أي نقص طاله، ولهذا لما جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الَخطَّابِ -رضي الله عنه- يَسْتَشِيرُهُ فِي طَلاَقِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عُمَرُ: لاَ تَفْعَلْ؛ فَقَالَ: وَلَكِنِّي لاَ أُحِبُّهَا، قَالَ لَهُ عُمَرُ: «وَيْحَكَ أَوَكُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ؟! فَأَيْنَ الرِّعَايَةُ وَالتَّذَمُّمُ؟!».
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْبِرْ مِرَارًا عَلَى الْقَذَى
ظَمِئْتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وغيره: «من أفسد امرأة على زوجها؛ فليس منَّا».
لعظم المفاسد الكبيرة الذي يتضمنه تصدع رابطة الزوجية.
وانظر إلى عظم قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ، أَوْ قالَ: غَيْرَهُ». أي لا يبغض الرجل زوجته بغضاً مطلقاً؛ ففيها محاسن يجب ألا ينساها؛ فقبل النظر للنقائص والمثالب، انظر للمحاسن والكمالات، فلا تخلو امرأة، بل لا يخلو إنسان من نقص وضعف، يسده إحسانه وكماله في الجهة الأخرى، ولهذا قال تعالى:
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.
فما قام بينكم من فضل وصحبة لسنوات طويلة، تأبى مكارم الرجل وأخلاقه، التفريط بها، بلحظة غضب أو زعل أو طيش، وهناك عشرات الطرق التي تحل بها مشكلات الزوجين قبل الطلاق، ومن هنا يذكر الكتاب العزيز، بما جرى بين الزوجين من عشرة حسنة، بقوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.
فالكرام لا ينسون الفضائل والمكارم بينهم، أما اللئام فهم من ينسى كل فضيلة، وينشر كل رذيلة، ويعلن كل قبيحة، لمجرد خلاف حصل بين الطرفين.
أسأل الله أن يحمي بيوت المسلمين من الطلاق والشقاق، ويقيم بينهم المحبة والسعادة والوئام.
الأبواق الناعقة
ويبين الدكتور عبدالله بن مطلق المطلق المحامي والمستشار الشرعي أن الشريعة الإسلامية أولت رعاية خاصة بالنظام الأسري من بداية الخطبة فجعلت لها أحكاماً ثم الزواج فجعلت له أحكاماً ثم الإنجاب ورعاية الأطفال فجعلت له أحكاماً وكذلك الطلاق جعلت له أحكاماً في الكتاب والسنة لأهميته فعند الشقاق عندما يتجاوز الزوجان أو أحدهما الحدود الشرعية ويدب النزاع بينهما وتستنفذ وسائل الإصلاح من وعظ وهجر وغير ذلك فقد شرع الله تعيين حكمين من أهلهما ينظران في الصلح بينهما وفي حال تعذر الصلح وتوجه الأمر إلى الفراق فإن الشريعة الإسلامية جاءت بحفظ الحقوق وصيانتها حفظاً للمصالح ودرءاً للمفاسد فجعلت للطلاق أحكاماً تحقق المصلحة بين الزوجين وتمنع المفسدة، كما تحقق مصلحة الأطفال في حال وجودهم وتمنع الضرر والمفسدة عنهم، ومن تلك الأحكام أن يكون الطلاق في أوقاته المحددة من قبل الشارع، وأن تبقى المطلقة في بيتها حتى تنقضي عدتها فلها أن تتزين أمامه، لعل الله أن يقذف في قلبيهما المودة والرغبة في المراجعة وإعادة المياه إلى مجاريها، وفي حال تعذر الرجوع بينهما وتقرر الطلاق يبقى حق كل منهما في الفضل والإحسان بستر كل منهما للآخر، وعدم كشف ستره وعدم استنقاصه، وألا يكون حقد أحدهما وحنقه سبباً في الانتقام والإضرار بصاحبه خاصة إذا كان بينهما أطفال فيحرم الطفل من حقه في رؤية والديه ويحرم الوالدان من رؤية أولادهما. فقد روى الترمذي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، وكذلك الأب قد يحرم أحياناً من رؤية أولاده عندما تكون الحضانة للأم، ولاشك أن الطلاق وما يترتب عليه يعد في الغالب شرخاً في بناء المجتمع، وعند حدوث هذا الشرخ يجب ألا يتسع فيشمل أسرتي الزوجين فتكبر الهوّة وتزداد القطيعة ويستفحل الأمر ويستحيل رأب الصدع، ولذا لا بد من إعمال العقل والتزام الشرع في التعامل مع الموقف، وذلك من خلال حفظ الحقوق والتعامل بالفضل والإحسان، ولتحقيق الفضل والإحسان بين الزوجين بعد الفراق لا بد من التقيد بتعاليم الإسلام، واحتساب الأجر، والصبر في مثل هذه المصائب، والتعامل بالتي هي أحسن، وعدم الالتفات للأبواق الناعقة التي تذكي نار المصيبة سواء من الأقارب أو الأصدقاء، وعلى الأهل والأصدقاء التزام الحياد وعدم التدخل إلا بالحسنى، فكم من بيوت هدمت بسبب التدخل من قبل بعض الأهل والأصدقا.
قصور المناهج
ويقول الدكتور منيع بن عبدالعزيز المنيع الخبير التربوي، أستاذ التربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً: المطلع على الإحصاءات التي تظهر بين الحين والآخر حول انتشار الطلاق بصورة مقلقة في المجتمع السعودي، فإنه فعل يحتاج الى وقفة وإلى دراسة واعتباره ظاهرة ومشكلة تحتاج إلى حل، ولاشك أن هناك الكثير من الأسباب وراء تزايد حالات الطلاق في المجتمع، وكمتخصص تربوي أرى أن قصور المناهج التعليمية في تحقيق الأهداف الخاصة بإعداد الطلاب والطالبات للحياة المستقبلية إنه هو أمر واقع ومهم، والمناهج التعليمية من وجهة نظري كمتخصص أنها نظرية وليست عملية تطبيقية حشو أذهان الطلاب والطالبات بالمعلومات ودون أن يكون هناك اهتمام بالتطبيق، وبضرب أمثلة من الواقع على ما يأخذونه من معلومات ومعارف، وبالتالي تأتي الامتحانات لمعرفة مدى قدرة الطالب على حفظ هذه المعلومات وتفريغها في ورقات الإجابة، ويعتبر ناجحاً دون أن يدرك أبعادها وكيفية تطبيقها، وما أثرها على حياته، وهناك نقطة مهمة أيضًا المناهج التعليمية لا ترسخ القيم الخاصة بالأسرة، وأهمية الأسرة والزواج وقدسيته، وما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الطرفين وما إلى ذلك.
لا يعني نجد نصوصاً سواء في المواد الشرعية أو نصوصاً في مواد اللغة العربية أو في المواد الاجتماعية من حيث عرض بعض السير الناجحة في موضوع الزواج والتوافق والتآلف، كل هذا من وجهة نظري أنه غائب، وكذلك عدم معرفة الشباب والشابات ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات عندما ينتقلون إلى عش الزوجية حيث يدخل الشاب إلى عش الزوجية أو إلى مشروع الزواج على أنه متعة وعلى أنه هو الآمر الناهي وعلى أنه هو المسيطر، وأنه هو البطل وأن هذه البنت اشتراها بماله إلى ذلك فترى البعض يستعبدها ويستصغرها ويحتقرها ويستخدمها الاستخدام الأعوج، وكذلك البنت لديها فكرة بأن هذا الرجل يلبي طلباتها وجاء ليسعدها، وأن السعادة من وجهة نظرها لها، وتنسى واجباتها تجاه بيتها وزوجها، ولذلك تنشأ المشكلات وتكبر، وهو ما يؤكد أن عدم تهيئة الطلاب والطالبات بصور تجعلهم قادرين على القيام بأدوارهم بصورة مرضية بعد الزواج، مثلاً المرأة أو البنت عندما تنتقل عليها واجبات وجوانب فنية مهارية لا تقوم بها ولا تتعلمها قبل الزواج لأنها معتمدة على الخادمة، وتقول سيأتي بخادمة وأنا لن أتعب ولن أشقى في شيء يعني العمل في داخل منزلها الصغير الذي بدأت به، وإنما هي سيدة ومخدومة وما إلى ذلك، وهذه مشكلة كبيرة قد يرى الرجل أن فيها انتقاصاً لشخصيته وهضم حقوقه، وعدم وجود انسجام وتوافق في محتوى مختلف المواد الدراسية سواء الشرعية أو غيرها، كما أننا لا نجد نصوصاً متنوعة في جميع المواد تتضافر كلها وتتوجه إلى بناء الأسرة أبداً، نجد أن هناك إشارات خفيفة في نصوص قرآنية أو أحاديث أو أبيات شعر أو نص أدبي وما إلى ذلك، ولكن لا يركز على مضمونها ودلالتها وما يجب أن يستفاد منها.