غني عن القول أنني مهما عبرت عن مشاعري وأحاسيسي تجاه الغالية الدكتورة نورة وعن عمق علاقتي بها فإني لن أوفيها حقها فعلاقتنا علاقة أخوّة وصداقة ورفقة علم وعمل، نستشير بعضنا بعضا في كل أمورنا الصغائر منها قبل الكبائر، فكانت نعم المستشارة ونعم الرفيقة في الحضر والسفر.
درسنا في قسم واحد هو قسم التاريخ في جامعة الملك سعود وتخرجنا منه معاً، وعُيِّنا به معيدات، وكانت زميلتي في العمل والدراسة في كافة المراحل الدنيا والعليا.
وعلى الرغم من اختلاف تخصصاتنا من حيث الحقب التاريخية؛ فتخصصها الدقيق في تاريخ الجزيرة العربية القديم، وأنا متخصصة في التاريخ الإسلامي، فإننا في حقيقة الأمركنا ندين لهذين التخصصين بالتقريب بيننا، فكلانا يعشق تاريخ العرب قبل الإسلام، ويجمعنا أيضا حب تاريخ الجزيرة العربية، فكنَّا -ولله الحمد- نكمِّل بعضنا بعضاً، وكنا كثيراً مانجد أنفسنا مابين مصادر التاريخ القديم والمصادر الإسلامية.
كانت -رحمها الله- ضليعة في التاريخ القديم.. متقنة لقراءة النقوش المسندية ولها فيها جهود تذكر لها وتشكر عليها، وهي معروفة بتميزها في أوساط أهل التخصص من عرب وعجم، ومن أبرز مؤلفاتها: الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية من القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي، والتشريعات في جنوب غرب الجزيرة العربية حتى نهاية دولة حمير. والكتابان يعدان من الكتب القيمة، وهما منشوران قبل مدة، وحينما نفدت النسخ، وكثر الطلب عليهما أعادت نشرهما في حلتين جديدتين. كانت -رحمها الله- تعشق تاريخ الجزيرة العربية القديم، وتاريخ اليمن بصورة خاصة، وتاريخ الدولة الساسانية، وقد نُشرت لها أبحاث متنوعة تناولت علاقات الدولة الساسانية بالجزيرة العربية منها: «علاقة الدولة الساسانية بجنوب الجزيرة العربية من القرن الثالث حتى القرن السابع الميلاديين» و»علاقة الدولة الساسانية مع قبائل الجزيرة العربية خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين»، وهي منشورة الأول نشر في مجلة الخليج للتاريخ والآثار، والثاني نشر في مجلة المؤرخ العربي، ولها بحث ثالث يتناول علاقة الدولة الساسانية بمدن الحجاز: مكة ويثرب، وهو مقبول للنشر. وكانت تعتزم على جمع هذه الأبحاث، وأبحاث أخرى قيد النشر لنشرها في كتاب ولكن أجلها المحتوم لم يمهلها. وحتى في مرضها كانت مستمرة في عملها البحثي للترقية إلى رتبة أستاذ، وأذكر أنها انجزت معظم الأبحاث المطلوبة للترقية إلى درجة أستاذ.
ويتصل بحديثي عن إنتاجها العلمي أنها كانت -رحمها الله- كثيراً ماتترجم إلى اللغة الإنجليزية ومنها إلى العربية وكانت تراجع وتعلق على الكتب المترجمة، وكانت متقنة ذلك الفنّ إلى حد كبير، وقد علَّقت على كتاب: أميانوس ماركيللينوس والجزيرة العربية (132 صفحة) الذي ترجمه الدكتور فايز يوسف، ونشرته دارة الملك عبدالعزيز. وكانت هي من يُعَوَّل عليها في ترجمة وتدقيق عناوين رسائل طالبات الدراسات العليا المقدمة إلى قسم التاريخ من العربية إلى الإنجليزية.
عرف عن الدكتورة نورة - رحمها الله - حبها للقراءة، وعشقها لاقتناء الكتب فأسست لذلك مكتبة ثرية عامرة بالمصادر والمراجع العربية وغير العربية، وعملت على تجهيزها بكافة الآلات والأدوات المكتبية مما يحتاجه الباحث المتخصص، فكانت تقضي فيها معظم أوقاتها، وتستقبل فيها طالباتها، وتطبع لهن وتنسخ ما يفيدهن، وتعيرهن مايحتجنه إليه من المراجع، وكنت كثيراً ما أراها عندما نذهب سويا لزيارة معرض الكتاب الدولي تكثر من شراء الكتب لإثراء مكتبتها، وكانت إذا ماوجدت كتباً تفيد طالباتها لا تتردد في شرائها لهن.
وحينما تعود من ملتقى دراسات الجزيرة العربية (Seminar for Arabian Studies) الذي يعقد سنويا في المتحف البريطاني بلندن وتحرص هي على حضوره، تعود وهي محملة بالمراجع الأجنبية التي يحتاجها كل من زملائها وزميلاتها في بحثه، فكانت تدوّن في مفكرتها موضوعات رسائلنا وتزود كل منا بما يفيد بحثه مما استجد من مراجع ودراسات حديثة، وأذكر يوم صلاتنا عليها في المسجد أخبرتني د. عبير ابنة أخيها المهندس علي النعيم أنها عادت للتو من لندن ومعها مراجع متنوعة كانت -رحمها الله- قد أوصتها بجلبها إليها، فجزاها الله أجر ذلك أضعافا مضاعفة..
وبلغ من حبها للعلم عامة، وللتاريخ والآثار خاصة أن شرعت بمساندة من أخيها وأخواتها في تأسيس جائزتين باسم والدها؛ الأولى في جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي وعنوانها: جائزة عبدالله النعيم لخدمة تاريخ الجزيرة العربية وآثارها. أما الثانية في اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة وعنوانها: جائزة عبدالله النعيم لخدمة تاريخ الوطن العربي وحضارته. وكانت تحرص على حضور الملتقيات السنوية الخاصة بتوزيع الجوائز لتقلد الفائزين، وتبارك فوزهم، وهي تمثل والدها في تلك الملتقيات خير تمثيل.
برعت في العمل الإداري في جامعة الملك سعود فقد رُشحت لوكالة قسم التاريخ عام 1419 هـ كانت تحرص على تنفيذ مصالح الطالبات، وتسيير العمل على أكمل وجه من العدل والإنصاف مع الحفاظ على المصلحة العامة، كانت صاحبة قرار لا تأخذها في الحق لومة لائم، عملت معها في إعداد الجداول الدراسية في القسم والكلية، فكانت تحرص على مصلحة الطالبات ومراعاة ظروفهن، وتحقيق أقصى ماتستطيع تحقيقه من مطالبهن بما لا يتعارض مع المصلحة العامة. وكنت أجتمع معها في بيتها للعمل ومراجعة وتدقيق ماتم عمله بخصوص الجداول وخلافها. وقد استمرت وكيلة للقسم ثلاث سنوات متتالية، وفي سنة 1427هـ رشحت لرئاسة وحدة الجودة والتطوير في كلية الآداب، فعملت بها بإخلاص وجد فكانت الجودة معلماً بارزاً في عملها، وكانت تتقن أعمال الجودة في القسم والكلية وتأخذ معها أحمالا من ملفات الجودة إلى بيتها لمراجعتها، واستمرت فيها لثلاث سنوات متتالية أيضاً، ثم رشحت بعدها لوكالة كلية الآداب في عام 1430 هـ وكانت ناجحة جدا في وكالتها للكلية، فكرست جهدها، وعملت جاهدة للوصول بالكلية إلى التميز، ولم تنته فترة وكالتها إلا والكلية منفذة لجميع متطلبات الاعتماد الأكاديمي، وقد تحقق لها ذلك. وكانت لي خير سند عندما كنت وكيلة لقسم الإعلام، وهي وكيلة لكلية الآداب، وكان القسم وليداً، ولا يوجد به سوى برنامجي الماجستير العام والموازي، ولم يكن به من المعيدات ومن المحاضرات سوى محاضرتين من السعوديات، فساندتني -رحمها الله- بكل ما أوتيت من قوة لأنجح في إدارة القسم وتأسيسه على أكمل وجه وهو اليوم يتصدى الريادة في أقسام الكلية لكثرة الإقبال عليه من قبل طالبات البكالوريوس والدراسات العليا. وقد أهلتها نجاحاتها في الإدارة الجامعية إلى ترشيحها مرة أخرى لوكالة القسم في عام 1433هـ وقد قبلت الترشيح مكرهة؛ لأنها كانت قد عزمت على العزوف عن العمل الإداري للتفرغ لأبحاثها، ولكنها أمام ضغط إدارة القسم لم تستطع المقاومة وقبلت، واستمرت في وكالة القسم لسنتين، كنت حينها وكيلة لقسم الإعلام، ومع ذلك كنا نجتمع، ونلتقي وأعمل معها في عدة لجان في القسم والكلية ونستفيد من خبرات بعضنا بعضا.
عرفتها متفانية في عملها إلى أبعد الحدود، حريصة على طالباتها أشد الحرص.. تزودهن بما يحتجن إليه من المصادر والمراجع عربية وأجنبية، وكانت تترجم لهن النصوص ذات العلاقة بموضوعات رسائلهن بحكم إتقانها للغة الإنجليزية حتى لا تثقل عليهن بتكاليف الترجمة، فضلا عن كونها لا تثق بالمترجمين الذين عادة ما يترجمون للطالبات ترجمة حرفية مما لا يفي بالمعنى والمبنى ولا يفيد الباحث المتخصص في التاريخ إفادة دقيقة.
في أثناء مرضها لم ينقطع إشرافها على رسائل الماجستير والدكتوراه لطالباتها الخمس كانت تتواصل معهن وتوجههن وتقرأ ما يكتبن، وتصحح لهن، وكانت تناقشني حول الكثير من الملحوظات والمنهجيات كما اعتدنا ذلك مع أننا كنا في فترة إجازة لأعضاء هيئة التدريس.
وقد تحاملت الدكتورة نورة -رحمها الله- على نفسها في مرضها الأخير فناقشت رسالة ماجستير في جامعة الملك سعود، وأخرى في جامعة الملك فيصل في شهر رمضان المبارك، فكان أداؤها مميزاً في مناقشة الرسالتين اللتين أثرتهما بالكثير من الملحوظات القيمة، سواء في المضامين العلمية أم في الطرائق المنهجية. فجزاها الله خيراً عن علم أضاءت به دروب طالباتها ممن درستهن، وأشرفت عليهن، وناقشتهن، وطالبات أخريات أهدتهن إلى صراط البحث السوي، ولم تبخل عليهن بفيض ملحوظاتها.
وللدكتورة نورة -رحمها الله- قدم راسخ في الأعمال الخيرية والتطوعية أذكر منها مثالا واحدا فقط يحتذى وهو عضويتها في مجلس إدارة الجمعية السعودية لمتلازمة داون « دسكا « فكانت عضوا مؤسسا لها، تحرص على حضور اجتماعاتها وعادة ماتعقد يوم الاثنين وهي صائمة فتأخذ مايتيسر لها من التمر لتفطر عليها وهي في طريقها لحضور اجتماع مجلس الإدارة وكان هذا ديدنها حتى توفيت -رحمها الله- وهي عضو فاعل في مجلس الإدارة.
أما برها بوالديها فكان لا حدود له.. كانت تعشق والدها، وكان قدوتها في كل أمورها، فكيف لا وهو من تعلق ببناته وافتخر بهن في كل محفل أمد الله في عمره وحفظه من كل شر، ومنه تعلمت الانضباط في العمل، ومهارتها الإدارية في كل المناصب الإدارية التي تسنمتها، واللجان التي عملت بها في جامعتها وخارجها. ولا غرابة أن برعت الدكتورة نورة -رحمها الله- في العمل الإداري، فهي ولدت وعاشت وتربّت في ظل واحد من أنجح الإداريين في عصره، وهو والدها الذي تقلب في عدة مناصب إدارية وأصاب بها نجاحا يذكر له ويشكر عليه.
وكان آخر ماكتبته مقالا عن والدها نُشر في جسور الدورية التي تصدر عن مركز الشيخ حمد الجاسر عنوانه: «عبدالله بن علي النعيم الأب المربي المعلم» أبرزت فيه الدور الذي لعبه في حياتها والأثر الذي تركه فيها وختمت -رحمها الله- بدعاء قائلة « وختم لنا جميعا خير الختام». فالحمد لله على حسن الختام.
أما والدتها -رحمها الله- فكانت بالنسبة لها كل شيء في حياتها، وكانت رفيقتها في مرضها، وفي زياراتها إلى المستشفى، كانت بارة بها في حياتها وبعد وفاتها، فكانت دوماً تدعو لها، وتتذكرها، وأذكر في زياراتنا لأم الدنيا كانت تحرص على زيارة امرأة كانت والدتها تتصدق عليها فكانت تبرها كما كانت تفعل والدتها في حياتها -رحمها الله-. وكانت كثيرا ماتوصيني بوالدتي -شفاها الله- خاصة بعد وفاة والدتها ومعاناتها التي تركها حجم فقدها لها لا حرمها الله الأجر، والمثوبة فكانت بارة بها براً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وعلمت أنها أوصت أن تدفن قريباً منها طبقاً لما رواه لي من حضر دفنها -رحمها الله-، وكانت حفيَّة بأخواتها تذكرهن وتثني عليهن وعلى نجاحاتهن ومنجزاتهن وهن يبادلهن الثناء والحب، وكانت تفخر بأخيها المهندس علي النعيم وتفاخر به، وهو يقول عنها هي «أختي وأمي وجارتي وكل شيء محبب إلى نفسي». وكانت -رحمها الله- دائمة الترحم على زوجها المهندس صالح النعيم الذي حزنت عليه حزناً شديداً وترك بموته فراغاَ عندها لا يخفى على عارفيها والقريبين منها، وقد تبرعت هي وابنتاها ببناء مدرسة باسمه في مسقط رأسها عنيزة. وأما بنتاها د. لمياء و أ. نجلاء فكانتا كل شيء في حياتها، وكان حبها لهما فوق الوصف، وأذكر أنها زارت بنتها نجلاء في أبو ظبي قبل وفاتها بشهر على الرغم من مرضها.. وعن أحفادها كانت الدكتورة نورة -رحمها الله- مثالاً للجدة الحنون، تعطف عليهم، وتأنس بهم، وبوجودهم معها، وكانت لا تخفي سعادتها حينما يزورونها ويبيتون عندها، ويقضون معها أسعد أوقاتهم. وأما رند كبرى أحفادها فكانت ابنتها المقربة إلى قلبها، فكثيرا ما تحدثني عنها، وعن تفوقها الدراسي، وقربها إليها، وهي الآن تدرس في كلية طب الأسنان ولا غرو في ذلك فهي كأمها الدكتورة لمياء التي حصلت على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في كلية الصيدلة في جامعة الملك سعود وهي اليوم أستاذ مشارك في القسم وقريبا ستحصل على الأستاذية -إن شاء الله- وهو أمل أمها -رحمها الله- الذي كانت تتحراه بشوق ولم تكن لتخفيه عني.
في مرضها الأخير حرصت الدكتورة نورة على ألا تضيق صدر أحد من محبيها، فكانت تكتم كثيراً مما بها، وكانت تتحامل على نفسها كثيراً، وأصرت ألا يعلم بمرضها أحد، فكتمت مرضها وأوجاعها، وأوصتني بذلك متمثلة بدعاء نبي الله يعقوب عليه السلام «إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» وكانت تردد كثيراً صبر جميل والله المستعان، فلم تجزع قط أو تظهر حزناً مما ألمّ بها، وكانت لا تشكو مابها إلا إلى الله وحده وتستمطر رحمته وفرجه، وهذا لعمر الله شأن المؤمن الصابر. في مرضها عجبت لذلك الإيمان الراسخ، واليقين بقضاء الله وقدره الذي كانت تتمتع به الغالية -رحمها الله-، فكان الأمل يلازمها، وثقتها بربها لا تفارق لسانها، وكنت كلما سألتها عن حالتها الصحية صباحا ومساء -كما اعتدت على ذلك- كنت لا أسمع منها إلا كلمات الاطمئنان على أنها بخير وبصحة جيدة. متمثلة بالأثر المشهور: إن البلاء موكل بالمنطق. وهذا حالها إلى ماقبل وفاتها بيوم واحد وهو آخر تواصل فيما بيني بينها رحمها الله.
فالحمد لله حمداً حمداً الذي شرفني بهذه الصحبة الصالحة الطيبة المباركة التي تركت في نفسي، وفي كل أموري الحياتية الشيء الكثير مما أجملته هنا وهو غيض من فيض في حق رمز الإنسانية وصاحبة الأيادي البيضاء رحمها الله وأسبغ على قبرها شآبيب الرحمة والمغفرة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
** **
أ.د. إلهام بنت أحمد البابطين - أستاذ التاريخ الإسلامي - جامعة الملك سعود