لا ريب أن موت العلماء والذين لهم هذه المنزلة العظيمة يؤثر في الناس بما لا يؤثر غيره، وفقدهم يُعَدُّ خطبًا جللاً ورزية عظيمة وبلاء كبيرًا، إذ الأشخاص كلما كان دورهم عظيمًا وأثرهم كبيرًا كانت المصيبة بفقدهم أشد.
قبل مدة يسيرة استودعنا من لا تضيع ودائعه أديبًا ومربيلاً فاضلاً مثله يفدى بالغالي والنفيس لو نفع الفداء:
ولكن إذا حمَّ القضاء على امرئ
فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
لقد سبقنا إلى القضاء المحتوم وإلى دار القرار الأديب الشّاعر والمربي الفاضل الأستاذ أحمد بن يحيى البهكلي -رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة- ولهذا الأستاذ في سويداء قلبي منزلة لا تدانى. ففي صباح يوم الأربعاء 17-1-1443هـ جاءني نبأ يحمل في طياته رحيل أحد أعمدة الأدب والشعر في السعودية فتكدر خاطري، وذرفتُ الدّموع، وأصبح في قلبي لوعة على فِراقه؛ فرحيله ورحيل أمثاله عن الساحة العلمية والأدبية تُعد خسارة لا تعوّض، وفجوة واسعة يتعذر سدها، ويترك رحيلهم في قلوب محبيهم فراغًا؛ وذلك لما أسدوه من أعمال جليلة.
لقد رحل ذلك الوجه المشرق الطاهر الوضّاء المتلألي بنور الإيمان وطاعة الرحمن، والناس يرحلون، منهم من يرحل جسدًا وتبقى روحه بين محبيه بمآثره ومكارمه، وبأخلاقة الكريمة وتقديره للناس. ولا شك أنّ أبا عبدالرحمن من هؤلاء وسيبقى رمزًا في الذاكرة؛ لأنّه من فرسان الكلمة الأدبية المرهفة إحساسًا، وسيبقى رنين صوته مدوّيًا بين محبيه ومتذوقي شعره المؤثر الذي طالما ألقاه في المنتديات الأدبية، والنّدوات العلمية، والمناسبات الاجتماعية.
لقد منح الله أبا عبدالرحمن روحًا شفافة وإحساسًا متذوقًا للأدب الرفيع، ومشاعر مبدعة فيّاضة، وموهبة تذوب فيها المعاني شعرًا في حب الوطن والدّفاع عن مكتسبات الأمة؛ نظرًا لما يملكه من باع طويل في مجال اللغة العربية وآدابها، حيث يجيد الشعر العربي الفصيح وهو علم من أعلام الشّعر في الوطن، وقد أثرى الساحة الأدبية والعلمية بعدد كبير من المؤلفات؛ لأنه رجل مثقف وذو خلقٍ عالٍ، وتتجلى إنسانيته في حبه للآخرين، وتقديرهِ لهم وأتذكر في هذا المجال قول الشاعر:
علم من الأعلام غيب في الثرى
فثوى رهينًا بين جنادل وترابِ
وقد قال عنه زميله الدّكتور محمد العوين الأديب والصحفي والمذيع المعروف: (كان نجمًا من نجوم كلية اللّغة العربية خلال الفترة 1396هـ إلى 1400هـ، وكان شاعرًا سمحًا مبتسمًا فيه حياء ونقاء، وأدب جم).
ومن أبرز صفاته كذلك -رحمه الله- أنّه كان قائدًا محنكًا، ويعمل بصمت ودأب وإخلاص، وتجلّى ذلك عندما تولى عمادة كلية المعلمين في جازان عام 1413هـ، فمن أبرز إنجازاته خلال تلك السنوات القليلة أنّ الكلية قفزت قفزات نوعية في جميع مجالاتها. وقد قال عنه الدّكتور محمد بن حسن الصائغ (وكيل كليات المعلمين) آنذاك: إنّ الكلية هي أحمد بهكلي، وأحمد بهكلي هو الكلية، وذلك لمعرفته بإخلاصه وتفانيه في العمل وقربه وتشجيعه ودعمه لمن يعمل معه بكل إخلاص وجد واجتهاد.
ومن الذّكريات الجميلة مع أبي عبدالرّحمن -التي لا تُنسى- مصاحبتي له خلال خمسة وثلاثين عامًا، عندما عمل محاضرًا ورئيسًا لقسم اللّغة العربية في كلية المعلمين بالرياض من عام 1408هـ إلى 1412هـ. ومن الذكريات -أيضًا- زياراتي المتكررة له في كلية المعلمين في جازان، عندما تولى عمادتها، وقد تخلل هذه الصّحبة الأحاديث الشيقة، والذّكريات والمواقف الطّريفة والجميلة، فهو -رحمه الله- مطبوع على الكرم والجود، ومن أقربها إلى قلبي عندما صحبته في صيف 1417هـ في دولتي السودان ومصر، أثناء لجنة التّعاقد لكليات المعلمين، والتي عرفت فيها أبا عبدالرحمن -رحمه الله- عن قرب، فكلما ازددت منه قربًا ازددتُ به إعجابًا بأخلاقه، ونضجِ تفكيره، وسعة علمه، فهو الصادق الصدوق الوفي النبيل الحصيف الأريب، وكل يوم أتعلم منه شيئًا جديدًا، ولقد كانت من أجمل الرّحلات الخارجية، وفي هذا الصدد أتذكر قول الشاعر:
توّلى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشّمس حين تغيب
رحمك الله -أبا عبدالرّحمن- رحمة الأبرار، وأسال الله -عزّ وجل- أن يتغمدك بواسع رحمته ومغفرته، وأن يسكنك فسيح جناته، وأن يجعل ما أصابك رفعة لدرجتك عند ربك إنه جواد كريم مجيب للدعوات، وأن يلهم أبناءَك البررة (عبدالرحمن، محمد، حسان، عبدالله، بدر، خالد)، وإخوتك الكرام (محمد وعبدالله، وعلي، وعبدالرزاق، وعبدالكريم) الصّبر والسّلوان، وأن يجعلك قدوة باقية تمتد عطاءً في أبنائك وذريتك، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- د. زيد علي الدريهم