نبكي على الدنيا وما من مَعْشرٍ
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
الإنسان حينما يهُمُ بالكتابة مؤبناً عن صديقٍ أو زميل سعد بصحبته عقوداً طويلةً من الزمن، حافلة بأجمل الذكريات وأمتعها، ساعات ولحظات تضيء في جوانب النفوس بهجةً وإشراقةً، يظلُ رنينها مُجلجلاً بين جوانحه حينما يخلو بنفسه، متمنياً عودة تلك الأيام والسويعات الجميلة التي يتعذرُ رجوعها- فعز الفؤاد عزاءً جميلاً:
ما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لا تعود
فيتحسر على غياب صاحبه ورفيقه أمثال حالي مع صديقي الأخ الحبيب عبدالله بن حسن الجريبة (أبو فهد)، الذي انتقل إلى دار النعيم المقيم بفضل الله ورحمته مساء يوم السبت 14 - 12 - 1442هـ، وأديت صلاة الميت عليه بعد صلاة عصر يوم الأحد في مسجد الجوهرة البابطين بالرياض، حيث ووري جثمانه الطاهر بمقبرة شمال الرياض بحضور أعداد غفيرة داعين المولى له في إضاءة أرجاء جدثه رحمةً وغفراناً:
وأحسن الحالات حال أمرئ
تطيب بعد الموت أخباره
يفنى ويبقى ذكره بعده
إذا خلت من شخصه داره
ولقد ولد في حريملاء عام 1355هـ، وهو الوحيد لوالديه من الأبناء، مع أختين كريمتين: نورة -رحمها الله- وسارة -متعها الله بالصحة والسعادة-، ووالدتهم العمة منيرة بنت إبراهيم الخريف - أخت العمين محمد وعبدالله - رحمها الله. وقد ترعرع بين أحضان والديه يقضي سحابة يومه في لعب ومرح مع لداته ورفاقه، ودرس في إحدى الكتّاتيب بحريملاء لتعلم الكتابة والقراءة، وحفظ ما تيسر من القرآن..، وكانت مخائل الذكاء والفطنة تلُوُحُ على محياه..، حيث كان سريع الحفظ من الآيات الكريمة وحفظ بعض الأجزاء..، مما كون لديه الملكة وإبعاد شبح الهيبة والخجل. وعند افتتاح أول مدرسة ابتدائية حكومية بحريملاء عام 1369هـ، التحق بها قبل الانتقال مع والديه إلى الرياض، مواصلاً تعليمه بالمعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ، حتى حصل على الشهادة الثانوية بتميز..، ليحظى مع بعض زملائه من الطلاب النجباء بالمعهد بالتشرف بالسلام على الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وذلك عام 1373هـ، حيث أثنى عليهم فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ أمام الملك، وقال: هؤلاء يمثلون باكورة طلاب المعهد.
وكان (أبو فهد) معروفاً بفصاحته، ولذلك تم اختياره لتلاوة آيات من الذكر الحكيم في الحفل الخطابي الكبير الذي أقيم على شرف جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز- طيب الله ثراه - أثناء تشريفه حريملاء عام 1374هـ، في جولته المباركة على عدد من البلدان والأرياف خارج الرياض.
ولنا معه -رحمه الله- أجمل الذكريات أثناء دراستنا في المعهد عامي 73 - 1374هـ، وذلك بعد عودتي من الدراسة بدار التوحيد بالطائف، وفي أثناء تلك الفترة تجمعنا به الفسح الطويلة..، ونسعد به مع عدد من الزملاء مع فارق العمر، فذكرياتنا الجميلة مع (أبو فهد) يطولُ مداها أثناء الدراسة وبعدها..، - تغمده المولى بواسع مغفرته.
وقد رزقه الله بأربعة من الأبناء وأربع من البنات البررة الصالحين، وكان باراً بوالديه واصلاً لرحمه، ومحبوباً لدى أسرته وجيرانه ورفاقه..، كما لا ننسى رحلتنا معه بصحبة عمنا الشيخ الكريم عبدالله بن إبراهيم الخريف وعائلته الكريمة نحو مكة المشرفة والمدينة المنورة، وخارجهما صَوبَ بعض البلدان شمالاً..، وما يتخلل تلك الرحلة المباركة من أحاديث شيقة وقصص وفكاهات خفيفة تؤنس السامعين: قال عمر بن عبدالعزيز مُحبباً محادثة ذوي العقول والآداب: إن في المحادثة تلقيحاً للعقل، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب. انتهى وقد صدق -رضي الله عنه- وما أصدق ما قيل:
وما بقيت من اللذات إلا
مُحاثة الرجال ذوي العقولِ
فالعم عبدالله (أبو إبراهيم) أنس المجالس - تغمد الله الجميع بواسع رحمته ومغفرته - وقد عمل (أبو فهد) في وزارة الدفاع والطيران اعتباراً من 20 - 7 - 1376هـ مدةً طويلة بكل جد وإخلاص محبوباً لدى رؤسائه وزملائه بل وجيرانه، وعمل في إدارة التفتيش المالي حتى صار مديراً عاماً للتفتيش المالي للوزارة، وكان من زملائه محمد الراشد الحصان، والأستاذ توفيق علمدار سفير المملكة العربية السعودية في الصين سابقاً، والأستاذ يوسف بن إبراهيم السلوم عضو مجلس الشورى - سابقاً-. ولقد تنقل أثناء العمل في بعض مدن المملكة بداية من مدينة الخرج، ثم مدينة الطائف، ومن ثم المدينة المنورة، واستمر في العمل حتى تقاعد بناءً على طلبه بتاريخ 10 - 1 - 1412هـ حميدة أيامه ولياليه، مع اعتنائه بتربية أبنائه وبناته تربية صالحة مؤهلين تأهيلاً عالياً، - تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته وألهم أبناءه وبناته، وخالهم الأستاذ الفاضل عبدالله بن عبدالعزيز العكاش، وأسرة أبناء العم محمد وعبدالله بن إبراهيم الخريف، وآل جريبة كافة وأسرة آل عكاش ومحبيه الصبر والسلوان. حيث سبقته عقيلته (أم فهد) إلى مضاجع الراحلين -رحمها الله-:
تعزّ فلا إلفين بالعيشِ مُتِّعَا
ولكنْ لورّادِ المَنون تتابعُ
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء