عرفته من سنين طويلة، وارتبطت به بعلاقة صداقة وود منذ أربعة عقود وتزيد، معرفة من أكل معه وشرب فعرف عنه وعن حياته الكثير، يدور بيننا حوارات في مختلف الجوانب الحياتية والثقافية فلا تمله، يملؤك بما يتمتع به من عمق أنساني وذوق رفيع بالتعامل مع من حوله، ويشبع نهمك بخبرته الحياتية والإدارية وثقافته وتحليله وسعة اطلاعه. ثم لا تملك غير أن تطلب وتستزيد.
استحضرت الماضي والحاضر وانثالت الخواطر خاطر أثر خاطر تترادف الذكريات البعيدة، وتتدفق شلالات الحاضر، فأتوقف وأقف أروّض قلمي بلجام التروي، فقلمي الجامح يتفلت ليكتب عما لا يحيط به مقال من خصاله وسجاياه وثقافته وقلمه الباذخ الجميل، وما يملك وما يتمتع به من جوانب كثيرة عرفته بها تستحق أن ينثال بها قلمي بما يوفيه حقه مما أروم أن أكتب عنه اليوم، ولن يفيه وإن حاولت في مثل هذا المقال.
أتحفز للكتابة فتترادف وتتدافع الجمل والعبارات، فإذا بقلمي لا يحيط إلا بشذرات، وقبس لا يُرى فيما هو فيه من مساحات ضوء واسعة، فهو رمز من رموز منطقة الجوف وأبن بار بها صادق معها ولها.
ويشرئب السؤال، عن ماذا سأكتب عن أبي ياسر؟. هل سأكتب عن صداقتي به وما دار ويدور بيننا من حوارات متصلة حين ألقاه، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول الكثير من القضايا الاجتماعية والثقافية؟ أم عن شخصيته وما تتميز به من خلق رفيع وأدب جم ؟. أم عن سعة اطلاعه وأفقه الواسع؟ أم عن ما عرفته من تجربته الإدارية المميزة؟ أم عن ما يُذكر به فيُشكر مما أعرفه ولا يعرفه؟ إن كتبت ولو عن بعض هذا سيطول الحديث ويصعب المبتغى. وهنا ليس لي إلا أن ألتقط شيئًا من اللؤلؤ المنثور من حياة صاحبنا.
بدأ حياته الوظيفية معلما بالجوف ولم يطل عمله حيث استقال، كان قلقا ينظر لمستقبل بعيد، خطوة على الدرب، وعين في الفضاء الواسع على أمل لم يخنه، فقد واصل سيره مطمئنا لمستقبل أفضل. ولعلي أشير إلى موقف ذكره لي ذات مساء في منزله، قال أنه: حين التحق بعد استقالته من التعليم ببرنامج الرقابة المالية بمعهد الإدارة العامة، وخلال أسبوعين كما يروي لم يستطع التعامل مع تلك الطلاسم والألغاز في مجال المحاسبة والمال، وهو القادم من تخصص جامعي لم يعهد فيه التعامل مع الأرقام. فالمحاسبة عالم لم يألفه ولم يتعامل معه، ومع ما أصابه من ملل وربما من إحباط قرر ذات ليلة الرحيل وترك البرنامج، عقد عزمه وحزم حقيبته في تلك الليلة متخذا قراره إلا يعود للبرنامج، ومن الصباح سيبحث عن درب جديد وهدف آخر لا يضنيه تحقيقه. لكنه لم يفعل، ففي الصباح تراجع عن عزمه وحل حزام حقيبته وقرر أن يواجه التحدي، وكان السؤال الذي ملأ ذهنه واحتواه. لماذا لا أتحدى تلك الطلاسم فأفكها، والرموز وأحللها ؟. فعاد بعد اليأس والملل للبرنامج بتحد ودافع جديد، يفتح لنفسه درب جديد وأفق ممتد. فما كان إلا ما يجب أن يكون مع إصرار وطموح وتوظيف وقت وجهد من هو في مثل عزمه وصبره، فحقق أكثر مما أستهدف. وتفوق ونقاش وحاور مدربه حتى تخرج من البرنامج متميزا بالمحاسبة والمالية العامة مشاراً إليه في عمله وتخصصه.
وفيما عرفته عنه ومنه، أقول مطمئنا بأنه لا يتعثر في دربه بحجر، فالحجر الذي يلقاه في طريقه يبني منه سلما يصعد عليه لتحقيق نجاحاته.
هكذا.. هو وقد عرفته جاد صادق يعبر دربه واثق غير متردد متحملا للمسؤولية، ومحولا معاناته إلى ألق من العطاء. كان ذلك شأنه منذ بدأ عمله مع صديقه ورفيق دربه (خالي) فيصل عيسى البحيران بمجلس التعاون واختيار أستاذهما صالح السماعيل لهما من «برنامج الرقابة المالية بمعهد الإدارة العامة» لتفوقهما للعمل معه في مرحلة تأسيس المجلس، فأسسا معه البنية الإدارية والمالية والتنفيذية القوية لمجلس التعاون الخليجي، بدأوا بثقة المتمكن البناء الإداري والمالي والتنظيمي للمجلس بالرياض بمنى مستأجر آن ذاك في طريق المطار القديم. فقام النظام الإداري والمالي في المجلس على أيديهم بأساس متين اجتمعت له مهارة الدربة والجدية، والولاء والإخلاص.
ومنذ التحاقه بالمجلس والى أن ترجل وهو يعمل بولاء وانتماء للتنظيم، يبذل قصارى جهده ووقته وعطاءه. أميناً عفيفاً وهو المشرف على أدارة تقوم بتصريف المال وتديره بالمجلس. فأنتج وتميز ليقطف ثمرة جهده وعطاءه أثرا حميدا خلفه وراءه بالمجلس يذكره فيه من عملوا معه وتعاملوا..
عمل بعد ذلك مديرا عاما لمؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية بالجوف، فقدم للمؤسسة الكثير من خبرته وإخلاصه وإبداعه الإداري. يعرف هذا عنه كل من تعامل معه أو تابع وراقب نشاط المؤسسة وأداءها حين كان قائما على أدارتها بالجوف ثري العطاء موظفا خبرته الثرة للمؤسسة فتوهج نشاطها وتوسع وعُرف ما لم يعرف عنها من قبل.
أنتج عملاً روائياً ولعله لا يبخل أن يبدع بآخر. وكتب المقالة بقلم جميل وفكرة رائدة. وتطوع بأعمال إنسانية واجتماعية كعمله وحرصه على الرقي بجمعية المتقاعدين بالجوف وما يقدمه لها من وقته وفكره. إنه يزرع في كل حقل يقف فيه، ويجني حصيد ما زرع ويزرع ما يُذكر به اليوم، وما يُحفظ له ويذكره به أبناء الجوف.
قلت أنني لن أحيط بما سأكتب عن رمز من رموز منطقة الجوف، وحسبه أنني مع ما أكن له من الود العميق، أنهل كثيراً من معين معرفته وثقافته التي لا تنضب. بعد هذا وختامه لن أستطيع أن أقول أكثر من ما وسمت به هذا البوح عن صديق عرفته وسبرت الكثير في حياته، «عقل الضميري.. ثناء يليق بأهله».
** **
خالد الحمد - كاتب روائي - الجوف