أ.د.عثمان بن صالح العامر
الخطاب في آية الدين التي تعد أطول آية في كتاب الله الكريم خطاب للمؤمنين جميعاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} والذين يظن فيهم أصلاً حسن القضاء وعدم النسيان أو التناسي لما علق في ذممهم من حقوق مالية للآخرين، والأمر في كتابة الدَيْن في الإسلام أمر مطلق ومع الجميع أياً كان هذا المدين قريباً أو حتى غير معروف، وأياً كان مبلغ الدَيْن قليلاً أم كثيراً (بدين) نكرة في سياق العموم، وأياً كان الزمن المضروب للسداد بعد أيام أو أشهر أو حتى عدة سنوات (إلى أجل مسمى)، وفي آية الدَيْن هذه علاوة على ما سبق الإشارة إليه، تفصيل دقيق لهذا الباب الواسع من التعاملات المالية بين المسلمين بعضهم البعض، بل حتى مع غير المسلم، وهذا دليل واضح على عظمة هذا الدين وشمولية الإسلام لجميع جوانب حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية و... فهي كبقية آي القرآن الكريم نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النبي الأمي، وفي مجتمع لا يعرف فيه القراءة والكتابة إلا عدد محدود، وفي زمن كانت التعاملات المالية فيه قليلة ومع ذلك كله كان هذا الاهتمام والتفصيل، كما أن فيها دليلاً واضحاً على أهمية الأمر حين التداين وخطورة التعاملات المالية المستقبلية، والمؤسف أننا اليوم نعرف القراءة ونجيد التدوين والكتابة، والدنيا قد فتحت علينا وكثرت تعاملاتنا المالية حتى صرنا مجتمعياً بين دائن ومدين، مع كل هذا فنحن لا نهتم كأشخاص بهذا الأمر ولا نكترث كثيراً في الكتابة حين الدين، بل لو طلبت من المستدين أن تكتب ورقة تحدد فيها المبلغ المطلوب ووقت سداد الدين وطلبت منه أن يوقع عليها لظن بك ظن السوء، وقد يقول لك (كل هذا عدم ثقة، وش ها الحرص، كلها أيام وأردهن لك)، وربما قال لك (يا أخي بلا ها المبلغ اللي تبي تعيرن فيه)، طبعاً لا تنافي بين الثقة والكتابة أو الإشهاد، ولا تعارض بين المحبة والتدوين، ولولا هذه المحبة ووجود الثقة لما كان الدين، ولو أردت عرض الصور والإشكاليات الناتجة عن عدم الكتابة للدين في عالمنا المحلي، التي يعرف كل منا طرفا منها، لطال بنا المقام، فهي قد تكون بين الزوجة وزوجها الذي قد تضطره الظروف إلى الأخذ من زوجته لبناء مسكن أو لشراء سيارة، أو بين الأخ وأخيه أو بين القريب وذوي رحمه أو الصديق مع رفيق دربه، وقد تمضي الأيام وتنتهي الفترة المضروبة بينهما وتكون المطالبة ثقيلة على الاثنين الدائن والمدين، وقد يكونذا المبلغ المطلوب سبباً من أسباب المقاطعة وعدم إلقاء التحية والسلام، والدائن ولو سُدد له الكثير ولم يبق إلا جزء من المال قليل ظناً من المدين أن المبلغ الذي أخذ هو ما تم سداده، لو حدث مثل هذا الموقف البسيط نتيجة عدم الكتابة وسوء الفهم غير المقصود لكبر الأمر عند المعطي (الدائن) ولاعتبر هذا إجحافاً في حقه وأخذاً لماله دون رضاه، ولكل أن تتصور لو حدثت الوفاة وفي ذمة هذا الإنسان أو ذاك دين لآخر أو العكس ولم يكتب.
إن الشارع الحكيم لم يأمر بأمر إلا وفيه سعادة الجميع وضمان وصيانة لحقوق الكل، ولسنا أعلم من الله عز وجل فيما يصل ويقطع، ويزيل الثقة بين الناس، لذا فالتوجيه القرآني واضح وبين.. إذا تداينتم بدين قليلاً أو كثيراً لأجل مسمى قريباً أم بعيداً، ولو كان المدين حبيباً أو صاحباً وقريباً فاكتبوه، فما يدري الإنسان ماذا يكون غداً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. دمتم بخير وتقبلوا صادق الود، وإلى لقاء والسلام.