إعداد - خالد حامد:
لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لبدء محادثة مع مسن عراقي يُدعى منذر. هذا شيء سوف أندم عليه طوال حياتي.
لم أكن متأكدا أبدًا من المكان الذي يعيش فيه منذر، لكنني كنت أعرف دائمًا أين يمكن العثور عليه. هناك في مطعم صغير شرق أوسطي بالقرب من منزلي، يسميه مرتاديه «يا هلا».
كان منذر هو صاحب المطعم، وزبونه الأكثر ولاء. كان يجلس دائمًا في نفس الزاوية حيث يتناول الغداء أو يحتسي القهوة أو الشاي. لا يزال بإمكاني تصوره هناك وهو يأكل وجبته المفضلة من الدجاج واللبنة مع سلطة الخيار، ويلوح لي للانضمام إليه.
في «يا هلا»، الذي أعيد تسميته منذ ذلك الحين باسم «جريل هاوس»، تصدح أصوات فيروز وأم كلثوم في المطعم ذو الإضاءة الخافتة، حيث يزين الخط العربي زخارف الجدران والأبواب.
أعتقد أن هذا النوع من المطاعم يمكن العثور عليه بسهولة في بغداد أو دمشق أو بيروت، ولكن بدلاً من ذلك، نجده هنا على طريق مزدحم خارج مدينة نيويورك. إنه يبدو وكأنه من الأماكن التي يذهب إليها الناس لتذكر الماضي.
كان أفضل ما في الجلوس إلى طاولة منذر هو سماع قصصه عن الماضي. في بعض الأحيان كان وحيدا، ولكن في أغلب الأحيان كان محاطا برجال عرب آخرين، لكل منهم حكايته الخاصة عن سبب سفره من وطنه... جذبتهم أذواق وروائح «يا هلا»، ورحب بهم منذر، المسلم الذي غادر بغداد في منتصف القرن.
«يا هلا» مكان خاص لعائلتي أيضًا. نحن يهود عرب من سوريا والعراق، جزء من مجتمع ازدهر لقرون عديدة كأقلية عرقية دينية نابضة بالحياة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
«يا هلا» هو المكان الوحيد القريب الذي يقول والداي وأجدادي إنهم يشعرون فيه بأنهم يستحضرون أجواء المقاهي الدمشقية والأسواق العراقية التي تركتها أسرهم وراءهم. لفترة طويلة كنا قلقين من أن يكتشف منذر وزبائن «يا هلا» الدائمون أننا يهود ويعاملونا بشكل مختلف.
منذر، صاحب الفضل الكبير، لم يسمح لي أن أشعر بذلك طويلا. كان يعلم طوال الوقت أننا يهود وما يعني ذلك. «تعال واجلس»، طلب مني في إحدى الليالي الهادئة قبل بضع سنوات، عندما لم يكن في المطعم سوانا. تحول كوب واحد من الشاي إلى كوبين، ثم ثلاثة، وأخبرني منذر قصصًا عن «العراق القديم»، عن الباعة الجائلين الذين كانوا يدفعون عربات عصائر الفاكهة عبر طرق المدينة الضيقة، وعن الأسماك الطازجة المشوية على الفحم التي يطلق عليها (المسقوف)، على ضفاف نهر دجلة.
قال لي منذر مرات عدة: «عندما كنت طفلا رضيعا، كانت جارتنا اليهودية تقوم بإرضاعي عندما لم تكن والدتي تستطيع ذلك .. كان أطفالها إخوتي وأخواتي». وأضاف: ولدت في هذا البلد (الولايات المتحدة) ولم أذهب قط إلى العراق، الذي فرت منه والدتي في السبعينيات حين كانت في السادسة، أو إلى سوريا، التي غادرها أجدادي إلى الأرجنتين في مطلع القرن العشرين.
كنت استمتع كثيرًا بقصص منذر، إلى درجة أنني صرت أذهب بمفردي إلى «يا هلا»، من أجل قضاء الوقت معه. كان المقعد حول الطاولة مكانًا في شتات أرحب ربما لم يكن أسلافي مستعدين لقبوله... لكنه كان فرصة رائعة للتعاطف أيضا، وهذا ما فقدناه ببطء وبشكل مأساوي في خضم التفرقة المتزايدة في الحياة الأميركية. لأننا نخشى من اختلافاتنا، نفقد جمال العثور على الروابط التي تأتي من مجرد بدء المحادثات في المقام الأول. ترجم منذر أغاني عربية للأطفال لا تزال جدتي ترددها هنا في نيويورك. تبين لنا أن جدي الأكبر، الذي بنى بعض دور السينما الأولى في بغداد، كان مسؤولاً عن العديد من الأفلام التي يتذكرها منذر باعتزاز... كثيرا ما استقبلته بـكلمات «السلام عليكم»، وفي أيام السبت كان يتمنى لي «سبت سلام». «ماذا تأكل؟ ماذا ستأكل؟» كان يسألني في كل مرة... وإذا كنت وحدي، لم يكن يسمح لي بالدفع «كيف يمكنني؟» قال ذات مساء «أنت مثل ابني». بحلول مطلع عام 2020، كنت أجلس إلى مائدة منذر كل أسبوع تقريبًا. لكن بعد ذلك بدأ ظهوره يقل، وعندما جاء، كان واضحا أنه مريض، رغم أنه حاول إخفاء ذلك... قال بابتسامة «أنا بخير، الحمد لله». بعد انتشار جائحة كوفيد 19، لم نلتق لشهور. وذات يوم، توقفت عند «يا هلا» لتناول الطعام في الخارج، فوجدته يتناول الكباب... وينظر بشوق من النافذة.
أخبرته أنني قد بدأت في تعلم اللغة العربية... فوعد أن نتبادل الحديث بالعربية... كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيت فيها منذر قبل أن أعلم بوفاته في أكتوبر الماضي.
** **
جوردان سلامة هو مؤلف وسيُنشر كتابه الأول بعنوان «رحلة عبر نهر ماجدلينا في كولومبيا» في وقت لاحق من العام الحالي - عن «نيويورك تايمز» الأمريكية