إعداد - خالد حامد:
من الواضح أن ما نتعامل معه ليس أزمة لها بداية وخاتمة، بل هو وضع عالمي جديد. هذا ليس انتقاداً للحكومات التي تصارع تحدياً أضخم وأعمق من أي تحد آخر في التاريخ الحديث. صحيح أن بعض الحكومات تصرفت على منوال أفضل من غيرها، لكن هذا التحدي فريد من نوعه سواء في تعقيدات المشكلة أو في حجمها.
علينا الإقرار بأن الفيروس قد تحرك إلى الآن بخفة وذكاء أكبر من البشر. لقد تحور الفيروس، والسلالات الجديدة منه أسرع انتشاراً، لكن يبدو أنها ليست أقل فتكاً. وسوف يستمر بالتحور. ستحتاج اللقاحات إلى التعديل على الأرجح لكي تهزم هذه التحورات، وهناك خطر خارجي (طارئ)، إنما ليس طفيفاً للأسف، حصول تحور لا يتأثر باللقاح في مرحلة من المراحل، ما لم نسبق الفيروس.
وفي هذه الحالة سنحتاج إلى مجموعة جديدة من الأدوية المضادة للفيروسات وغيرها من الأدوية الحيوية من أجل مكافحته، كما تعلم العالم أن يفعل مع فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب - الإيدز.
لم يتمكن بلد من القضاء على كوفيد - 19 سوى من خلال العزل التام، وهي سياسة لا يمكن تطبيقها في بلدان مثل بريطانيا، كما أنها غير مستدامة. وحتى في الصين وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وعلى الرغم من أشد القيود، لا يمكن القضاء على المرض كلياً. ولكن يجب إنهاء العمل بسياسة العزل في وقت من الأوقات لأسباب اقتصادية. ويتوقع المواطنون في الدول كلها من قياداتهم أن تعتني بهم في المقام الأول.
إنما ثمة ما يتضح أكثر فأكثر ولو كان جلياً، إن وُجد الفيروس في أي مكان، فهو موجود في كل مكان. بالتالي ليس التحرك العالمي مسألة اندفاع نابع من الغيرية والاهتمام بالآخر، بل تحرك متنور تمليه المصلحة الذاتية. لقد دفع العالم بكل بلدانه ثمناً باهظاً بسبب فشل التعاون الدولي في عام 2020.
وما يجب مطالبة واضعي السياسات في الحكومة به ليس الممكن (ما في مقدورها)، بل الضروري. من الصحيح أن ما بُذل من جهود كان خارقاً وأن الأنظمة ترزح تحت ضغط هائل وتفعل كل ما بوسعها لمكافحة كوفيد - 19، لكن الحقيقة الصريحة هي أن ذلك لم يكف.
كان من المفترض بهذا العام أن يكون عام العودة إلى وضع شبه طبيعي. إنما حالياً، لا يمكننا أن نتأكد حتى من أن هذا العام لن يكون أسوأ من الذي مضى. رهيب أن نقول هذا، إنما كلما أسرعنا في مواجهة الواقع، يتضاءل هذا الاحتمال ونحول دون الأسوأ.
اعتقد واضعو السياسات فعلياً في مارس 2020 أن جائحة كوفيد - 19 ستنقسم إلى ثلاث مراحل. في أول مرحلة، نقفل من أجل ضبط المرض. وفي الثانية، نبقي على بعض القيود بالإضافة إلى إجراءات مثل الفحص وتتبع الحالات، فيما المرض تحت سيطرتنا بينما ننتظر اللقاح. ثم تأتي المرحلة الثالثة حين نعطي اللقاح خلال عام 2021 ونصبح على استعداد للعودة إلى «الوضع الطبيعي».
وما حصل فعلياً هو أنه بسبب التحور، انهارت المرحلة الثانية. ولم يبق أمامنا من خيارات إلا التالي، إما التطعيم الشامل للجميع أو الإقفال الشامل.
ونتيجةً لذلك، تعقدت مسألة الجدول الزمني للتطعيم وشابتها الفوضى. العام الماضي، كانت بلدان عديدة تتفاوض مع مصنعي اللقاح كما لو كانت في سوق المشترين. والآن يحدث تدافع مجنون على اللقاح، وتهيمن القومية على حملات التطعيم (الاحتفاظ باللقاح في البلد المنتج) أكثر مما هيمنت على مسألة معدات الوقاية الشخصية خلال المراحل الأولى للجائحة.
علينا تعلم دروس العام الماضي كي نجعل هذا العام مختلفاً وأفضل.
صحيح أن البدء بتوزيع اللقاحات في غضون 10 أشهر هو معجزة بالمقاييس العادية. لكن المعجزة لا تكفي، قياساً على طبيعة الجائحة. يجب أن نحول المحال الآن إلى ممكن، الانتقال من مرحلة تحليل أي سلالة جديدة إلى مرحلة تطوير اللقاح ثم تصنيعه في غضون أسابيع، وحيازة القدرة على تصنيع هذه اللقاحات على نطاق ضخم. والأمر نفسه ينطبق على الأدوية المضادة للفيروسات وغيرها من الأدوية الحيوية.
وهذا ما يتطلب مقاربة مغايرة تماماً، تدرك بأن البنية التحتية الوطنية والعالمية الحالية قد فشلت، وأن السوق غير قادرة على إنجاز هذه المهمة. إن نقاط الضعف ظاهرة، إن وطنياً أو عالمياً، ولا يمكن تصحيحها من دون وجود خطة تتضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص وبين الحكومات.
أعتقد أن كل البلدان حيث أعلى نسب من السكان، تلك في العالم المتقدم بلا شك، وكثير منها في العالم النامي كذلك، ستطالبها شعوبها بأن يكون لديها قدرة محلية لتصنيع اللقاح وقدرات مرتبطة بهذا الموضوع في مجال العلوم الحيوية.
وعلى العالم أن يتعاون لكي يحرص على وجود هذه القدرة في كل قارة، مع إرساء أسس التوزيع العادل والمتساوي لكل الأدوات اللازمة من أجل مكافحة المرض بفعالية.
ويترتب على حيازة هذه القدرة توفير العناصر التالية على الأقل:
1- تطوير اللقاح والأدوية المضادة للفيروسات وغيرها من الأدوية الحيوية بسرعة.
2- الأبحاث والتطوير، بما في ذلك التطوير السريع لبنى أساسية لأدوية مضادة للفيروسات ولقاحات يمكن لها أن تضيف سلالات متعددة بسرعة.
3- بيانات قابلة للمقارنة، فالنقص في المعايير قد صعب جهود المراقبة وإدارة المعلومات الصحية.
4- آليات توزيع فورية.
5- أدوات فحص للمرض تكون سريعة في موقع استخدامها وبدقة اختبار «تفاعل البوليميراز المتسلسل» (بي سي آر) التقليدي.
6- نظم معلومات تستخلص كافة المعلومات الملائمة بسرعة وبشكل شامل.
7- نظم مراقبة تتيح الرصد والاكتشاف المبكر للمرض ولتحوراته.
وفي الأمد القصير، علينا توفير تحليل وراثي وتصنيف سريري سريع لأي سلالة جديدة، وإعادة توظيف قدرات المفاعلات الحيوية وغيرها من أجل تصنيع اللقاح، وتطوير اختبارات أفضل وأسرع، والتنسيق المناسب بين الأجهزة التنظيمية الأساسية الموثوقة من أجل الموافقة بسرعة على العقاقير الجديدة، وتغيير كلي لإجراءات التجارب السريرية، ومشورة فريق رفيع المستوى، فيه خبراء في العلوم والطب وصناعة الأدوية والتصنيع والتوزيع والإمكانات اللوجستية من أجل توجيه الحكومات في عملية اتخاذ القرارات.
وفي الوقت نفسه، علينا البدء بتأسيس بنية تحتية صحية عالمية للمدى البعيد، تمكننا من السيطرة على الجائحات المستقبلية.
لكن كل هذا يبدأ بالاعتراف بأن الفيروس كان حتى الآن أذكى وأسرع منا. وعلينا تغيير واقع هذا الأمر.
** **
توني بلير هو رئيس وزراء بريطانيا الأسبق - عن صحيفة (الإندبندنت) البريطانية