«يا للغرابة ... لقد بدت حزينة جداً بعد انتهاء أمسيتها الشعرية رغم أن جميع الحضور أدباء ومثقفين وشعراء أبدوا إعجابهم بتسريحة شعرها وجمال عينيها ولون فستانها» عبير كامل
هذه الحكاية تستند على نقض فكرة الثقافة بوصفها رجل, وهي رصد لحالات السيطرة التي تلحق بالرجل شاعراً أو ناثراً فتجعله يستخدم المرأة بوصفها موضوعاً لقصيدته! فالثقافة منذ أولها القديم هي اختصاص ذكوري, والمرأة هي الطرف المستقبل لتفاعلات الثقافة, وهي تمثال الجمال الذي يكتب فيه الرجل شعراً بوصفه جسداً أنثوياً مستسلماً لعقل الرجل وشعريته, وملغياً في الوقت نفسه أي ردة فعل(عقلية) للمرأة قد تجعلها مضاهية لعقل الرجل أو متغلبة عليه.
نحن نجد في التراث العربي وبقية الحضارات القديمة ثقافة سائدة تكاد لا تتجاوز تصوير المرأة جسداً يُستعمل مادة للفن أو الشعر في أحسن تمثلاتها ( ) والمثقف لم يتخلص من هذا الوعي القديم في تشييء المرأة, ولم يتجاوز فكرة جسديتها البحتة التي ساهم الشعراء منذ امرئ القيس على جعلها في موضع السذاجة أو الجمال أو الإثارة والمتعة, فالمرأة في هذا الهيكل البشري مجرد جسد وضع منذ خلق آدم لمتعته(في عقلية الرجل) لا لمساندته ولا لمساهمتها في عمارة الأرض! جُعل جسد المرأة مادة الثقافة المحمل بأحمال البلاغة والوصف والتشبيه البصري السطحي!
ثم تسلسلت الحكايات والقصائد في تعميق هذا المعنى؛ تعطيلاً لعقل المرأة وإبرازاً لجسدها, حيث جعلت العقل في مقابل الجسد مقابلة ضدية لا يمكن أن تتساير إلا في حالات نادرة, هذه الحالات تجعل المرأة لا تستخدم عقلها إلا للإيقاع بالرجل, ولاتستخدم ذكاءها إلا لنصب الفخاخ له, وربما رمزية ألف ليلة وليلة صريحة الدلالة.
المرأة في هذا النص تبرز في مسرح الثقافة صفحة مفتوحة, تجري عليها عيون التدقيق والتفحص أقلاماً ترصد كل ما يتعلق بها إلا عقلها, ومن ثم تتحول المرأة (الشاعرة أو المثقفة) إلى مادة شعرية يساهم في تشييئها المثقف الذكوري نفسه, المثقف الذي يُعد مساهماً لإبرازها!
نجد في النص شخصية المثقفة يدلنا عليها (أمسيتها الشعرية) مع ما أصابها من الحزن على ردة فعل جمهورها. ونجد شخصية أخرى هي رمزية العقل الواحد المتفرق في الجمهور! فمع التعدد الذي حددته الكاتبة عمداً بنوعية هذا المتلقي من الأدباء والشعراء والمثقفين؛ إلا أنها أبرزت وجه الثقافة المذكر, وغيبت في فضاء النص سيطرة الوجدان والعقل الذكوري الذي يجدده حضور المرأة! معتمدة على هذا الفراغ لتكثيف المعنى, ثم جعلت المواجهة مختلفة عن شكلها في الذاكرة الثقافية المهيمنة قديماً,فجعلت المرأة هنا رمزاً ثقافياً مع حشد الجمهور الذكوري! وهي مفارقة خلقتها عمداً لتغيير ما ألفه الناس من بروز المثقف الرجل, أو الشاعر والكاتب والرمز الذي يمثل العقل الأعلى في حشد من الجمهور ربما تكون المرأة منهم! هي تجعل القارئ يعيش تلك المفارقة بكامل وجدانه قبل أن ترصد له نوع هذه المواجهة والتي نعتبرها المفارقة الكبرى في النص؛ ألا وهي السؤال المتجذر: هل المرأة عقل أم جسد؟ وكيف يقوم المثقف بإلغاء عقل المرأة في مفارقة ضمنية بتسريح عقله كرجل, ثم إبرازها جسداً بدا لنا في إعجابه بعينيها ولون فستانها, لا إبرازها عقلا!
حين نعود إلى الذاكرة الشعرية فإننا لا نرى ليلى قيس, ولا بثينة جميل إلا طرفاً محكياً عنه لا يحكي! نرى حضورهن في اللغة رمزاً يسانده غياب ردات فعلهن! رغم ما حفظه التاريخ عنهن من القصائد والأخبار, لكنه حفظهن متناً للقصيدة ونموذجاً لها وتمثالاً لغوياً يمجد الشعراء جسديته!
لكن الكاتبة حاولت قلب النموذج القديم عن المرأة التمثال الحجري المستقبل لعبوديات الرجل الشعرية دون أن تبرز ردة فعلها؛ فجعلت لها صوتاً وعقلاً وشاعرية, ثم واجهت هذا الكائن المتحول بجمهور ذكوري(مثقف)لفظاً في سرديتها, و(ساذج وسطحي)ضمناً! فصنعت المفارقة بين ما كانت عليه المرأة وماصارت عليه وجهاً جديداً للثقافة, حاملة أدوات حفر في خطاب التاريخ (بأن الرجل عقل والمرأة جسد) إلا أن عملية أخرى كانت تعمل في هذا الشكل الجديد مسيطرة على أدواتها؛ هي عملية هيمنة العقل الذكوري المثقف! فظل الرجل كما هو ينظر للمرأة جسداً لا عقلاً!
حاولت الكاتبة في هذا النص أن تبرز المرأة بوصفها قادرة على الفعل والأنفال والحضور والمواجهة, حاولت استخراج المرأة من دائرة الصمت و(التمثالية أو الصنمية) إلى دائرة الانفعال باستخدام أدوات الرجل نفسها في الخطاب, ثم كثفت رمزية التحول والانتقال تكثيفاً بنائياً بدأته بـ(بدت حزينة), فأوقعت المرأة هنا في مواجهة أخرى ولكن مع ذاتها الشاعرة اليقظة التي انتبهت لإعجاب الجمهور لكل ماهو خارجها متجاهلاً شاعريتها وعقلها.حزنها شكّل قلب النص, لأنه فكك لنا فراغات النص وأحدث فرقاً في رمزيتها, لو نزعنا مثلاً (بدت حزينة) لما ظهرت لنا مفارقاتها التي اعتمدت عليها في ربط ا لحبكة. لأنها ستنتهي من أمسيتها وسيبدون إعجابهم بمظهرها, وربما يسعدها إعجابهم بها شكلاً وتعود لذات القيمة الذهنية في فضاء اللغة وذاكرة التاريخ, ثم يغرق نصها في السياق ويتلاشى ويُنسى لأنه فقد فاعليته! حزنها كان رثاءً لهذا المجتمع الذي أبرز الشخصيات التي لم تستحق البروز, غير أنها جعلتها المضافة إليه حتى في هذا النص التي وقعت الكاتبة فيه تحت سيطرة الوعي القديم, فهي تحاول مواجهة الرجل لكنها وقعت في فخ الحزن لأنه لم ينتبه (هذا الرجل) لعقلها بل لجسدها كأنثى!
ماذا لو قلبنا النص حيث تجعل سيطرتها طاغية مستمرة حتى بعدما (أثبتت) عقلية المثقف المسطحة, فلا يحزنها هذا الانتباه بقدر ما يشعرها بالانتصار لأنه لم ينتبه! فيكون عدم انتباهه استقلالاً من نوع آخر من جهة مرجعيتها في الاعتداد بنفسها, فلا يحزنها عدم انتباهه وتتوقف عن إضافة بروزها الثقافي إلى الرجل فلا تكون مضافة إليه؛ ثقافتها من ثقافته وبروزها من بروزه, وربما أن تلك النظرة ستحررها وستمنحها انتصاراً كشاعرة!
وربما وقعت الكاتبة في فخ آخر من فخاخ الثقافة حيث جعلت شخصية الشاعرة معرضاً بلاغياً تمارس فيه مهارتها الشعرية, ومعرضاً جمالياً متمثلاً في لون الفستان وتسريحة شعرها, وأتجاهل عمداً (لون عينيها) لأنه جمال فطري, أما التسريحة والفستان فهو جمال ثقافي صنعته الثقافة ووقعت الكاتبة فيه بالتواطؤ! ماذا لو استخدمت جمالاً فطرياً آخر كلون بشرتها أو جمال شعرها وتوقفت عن تقديم جسدها حسب شروط الجمال الثقافي, لا أختلف على أنها رمزية تشير إلى هذا التأرجح الذي تقع فيه العقلية الذكورية (المثقفة) ولكن استخدامها للرمزية أضعف فاعليتها, فالرمز لغة ملغمة؛ يجب استخدامها بحذر المحارب الذي يتمشى في أرض العدو, فنجد أن الكاتبة لم تنجُ من سيطرة العقلية الثقافية القديمة رغم مقاومتها لهذه المعركة.
** **
- أمل شبلان