ظللتُ عدة أيام أتتبع شاعراً حفظت له بيتين يتناقلهما في فضاء (تويتر) الأصدقاءُ الذين اشتعلت رؤوسهم شيبا أو كادت. والبيتان هما:
بدتْ شـعرةٌ بيضـاءُ في وسـط لِمَّتي
فبادرُتها بالنتـفِ خوفاً من الحتـفِ
فقالت على ضعفي استطلتَ ووحدتي
رُويدَك بالجيش الذي يأتي من خلفي
والتوقيع: (ابن الإفرنجية)!
ومن كثرة ما تداول الإخوة هذين البيتين ذاع صيتهما في فضاء (جوجل) الأرحب، وأصبحتُ لا أبحث عن بيت شعر أو موضوع تكون فيه أية كلمة من كلمات البيتين إلا وابن الإفرنجية وبيتاه أمامي. قلت لا بد أن يكون لهذا الشاعر كعب عال في الشعر، فسألت جوجل هذه المرة عنه، فرحب بي وأرسلني إلى موقع إلكتروني يتجمع فيه الشعراء من كل حدب وصوب، ومع كل منهم ديوانه الشعري مُصَدَّرًا بسيرته، ووجدت من يعرفني بشاعري بقوله:
(ديده كوز بن أنطوان إفرنجية) شاعر حلبي، عاش في أواسط القرن الثامن عشر، ولعله من أسرة بيت إفرنجية الشهيرة بلبنان. له مخطوط اسمه (المجموع المنتظم في فرائد الكلم) أودعه الكثير من النكت والأخبار والفقرات النثرية والمقاطع الشعرية، ومن جملتها قصائد وأبيات متفرقة من نظمه ومن نظم والده أنطوان، وبعض شعراء عصره، وقد انتهى من تأليف هذا الكتاب سنة 1780 .
وفتحت ديوانه على عجل فوجدت ستا وثلاثين قصيدة، وفرحت لعثوري على هذا الكنز الثمين، لكن.. يا لخيبتي! القصيدة الأولى مكونة من سبعة عشر بيتاً لكنها - مع الأسف - أبيات لمشاهير الشعر العربي كأبي نواس وأبي فراس والشافعي وصالح بن عبدالقدوس وغيرهم، وطبعي ألا يجمع بينها بحر ولا قافية كما لا يجمع بينها موضوع مشترك.
والثانية والثالثة قصيدتان مما ابتلي به الشعر في العصر العثماني من الزخرفة اللفظية، يبدأ كل بيت في القصيدة الأولى بحرف العين وينتهي به، والثانية يبدأ كل بيت فيها وينتهي بالقاف، وأشك في أنهما له لأن باحثاً في جامعة تركية كتب بحثاً محكماً بعنوان (أنواع الزخارف البديعية في العصرين العثماني والمملوكي) أدرج القصيدتين دون أن ينسبهما، ولو كان صاحباهما معروفين لذكر قائلهما.
أما القصيدة الرابعة فخمسة أبيات من الزجل اللبناني في مدح مشروب (العرق) اللبناني، وحتى هذه أبيات مهلهلة.
أما بقية القصائد كما يسميها الديوان فنتف مكونة من بيتين اثنين، استرعى انتباهي التفاوت الواضح بينها معنى ومبنى، مما جعلني أتتبعها واحدة واحدة في دواوين الشعراء والموسوعات الشعرية وكتب التراجم، فوجدت معظمها ليست له، بل لشعراء وفقهاء من مختلف العصور، حتى البيتان اللذان أشغلا أصحابنا في تويتر عن الجيش الأبيض الذي يغزو الرؤوس اتضح لي أن أبا عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري المتوفى سنة 671هـ قد أوردهما في كتابه (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة) ولم ينسبهما لقائل.
وهكذا لم يتبق من نتف الديوان إلا النزر اليسير الذي لم أعثر له على قائل، وإن يكن له فإنه لا يكفي لأن نسبغ عليه لقب شاعر.
مطاردة ابن الإفرجية جعلتني أطالع موسوعات النصارى وكتبهم التي تتناول شعراء القرن الثامن عشر وتوقفت عند مارون عبود في كتابه (رواد النهضة الحديثة) فقد كتب عنه صفحتين أشار فيهما إلى أن (الأب شيخو) قد أشار إلى مخطوط ابن الإفرنجية (المجموع المنتظم من فرائد الكلم) الذي حوى مختارات من شعره ومن شعر غيره. ويبدو أن (مارون) قد خدعه ابن الإفرنجية كما خدعنا فظن أن البيتين اللذين صدَّر بهما ابن الإفرنجية كتابه من قوله، وهما:
كتبتـه مجتـهدا وليس يخلو من غلط
فقل لمن يلومني من ذا الذي ما ساء قط
فقد وجدتهما في خاتمة كتاب (حلية الكرماء وبهجة الندماء) لابن أبي العيد المالكي (ص182-183) بخط كاتبه (العبد الفقير إلى الله تعالى عبده إبراهيم زين الدين العطار في سابع وعشرين من شهر ربيع أول سنة 1169) وهذا التاريخ بحسب إفادة (جوجل) يعادل اليوم الأخير من سنة 1755م أي قبل ربع قرن من تأليف ابن الإفرنجية كتابه المذكور.
وقد أُعجب مارون عبود باختياراته في مصنفه حتى إنه شبهه بأبي تمام في اختياراته فقال: «إذا قالوا في أبي تمام: إنه كان في انتقاء شعر حماسته أشعر منه في ديوانه، ليدلوا على سلامة ذوقه، فمثل هذا القول يصح أيضاً في مجموعة ابن إفرنجية الحافلة بالطرائف، وها نحن ننقل منها شيئاً. قال شاعر في وصف ليل:
وليلٍ بِتُّـهُ رهن اكتئـاب
ألاقـي فيه أنواع العذاب
إذا شرب البعوض دمي وغنى
فللبرغوث رقص في ثيابي
ظننت الموقع الإلكتروني حديث التأسيس أو أن ابن الإفرنجية وقصائدة لم تُضَف إلا من عهد قريب، فلم يتمكن أحد من اكتشاف الأخطاء أو تصويبها لكني وجدت أمام كل قصيدة تاريخ إتحافنا بها، وهو (الخميس 17 سبتمبر 2009)!.
ما أريد أن أقوله للأدباء والباحثين وطلبة العلم: (جوجل) - وما تفرع منه - ليس مسؤولاً عن صحة ما ينشر فيه فخذوا حذركم!
** **
- سعد عبدالله الغريبي