يالها من ذكرى عزيزة على النفس، ذكرى مرور 100 سنة على صدور صحيفة (أم القرى) أول صحيفة صدرت في العهد السعودي الزاهر عام 1343هـ/ 1924م، أي قبل الإعلان عن توحيد المملكة العربية السعودية بثماني سنوات، وبعد استرداد مدينة الرياض بربع قرن تقريبًا، فكان صدورها من الأحداث البارزة في تاريخ المملكة.
وهي أقدم من صحيفة «البحرين» التي عاشت في المدة (1939- 1944م)، وتعد أول صحيفة أسبوعية سياسية أصدرها في البحرين الأستاذ عبد الله بن علي الزايد، فلم تلبث أن توقفت بعد سنوات قليلة، ولكن صحيفة أم القرى استمرت في الصدور، ولم تتأثر بنفاد الورق أيام الحرب العالمية الثانية إلا لفترة قصيرة، مجتازة كل الصعاب والعقبات، وإن كانت صفحاتها قد انكمشت في تلك الأزمة، فصدرت في صفحتين بدلاً من 4 صفحات، ولكن الله كتب لها هذا العمر المديد.
ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى أنها الصحيفة الرسمية الوحيدة في المملكة آنذاك، التي واكبت جهاد الملك عبد العزيز الطويل في ضم شتات هذه البلاد تحت راية التوحيد، وكانت تُعنى منذ صدورها بنشر البلاغات الرسمية، والأوامر الملكية، والإعلانات الحكومية، وافتتاح بعض المشروعات في مكة، عدا اهتمامها بالاحتفال كل سنة بحياكة كسوة الكعبة المشرفة، وباستقبال الحجاج منذ دخولهم الأراضي المقدسة؛ لأداء مناسك الحج في يسر وسهولة.
صدرت صحيفة (أم القرى) في يوم الجمعة 15 جمادى الأولى عام 1343هـ، الموافق 12 ديسمبر 1924م، صحيفة أسبوعية مكونة من 4 صفحات تصدر من مكة المكرمة، والاسم مستوحى من الآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}.
ومنذ صدورها حتى الآن تنوعت خطوط الترويسة، من الخط الثلث إلى الخطين: الكوفي والديواني، ثم العودة إلى الخط الثلث، مع بعض الزخارف الهندسية الجميلة.
وقد تولى رئاسة تحريرها أو الإشراف عليها خلال هذه السنوات الطويلة مجموعة من الأساتذة، نذكر منهم: يوسف ياسين، ورشدي ملحس، ومحمد سعيد عبد المقصود، وفؤاد شاكر، وعبد القدوس الأنصاري وغيرهم.
ومن أبرز الأحداث المحلية التي وثقتها صحيفة أم القرى بالصورة، ذلك المطر الشهير الذي هطل على مكة المكرمة عام 1360هـ، وقد كان غزيرًا وقويًا، حيث دخل المسجد الحرام، ووصل إلى باب الكعبة، وصار الناس يسبحون في صحن المطاف، وتهدمت البيوت القديمة التي حول الحرم، فكان يومًا مشهودًا.
وصحيفة أم القرى تعد من المصادر الأساسية لدراسة الأدب والحركة الأدبية في بلادنا منذ عهد الملك عبد العزيز، فلقد كانت عامرة بالمقالات الدينية والأدبية والتاريخية والاجتماعية - وإن كان بعضها وُقّع بأسماء مستعارة - إلى جانب اهتمامها بالشعر، ونشر مئات القصائد لشعراء الرعيل الأول، والرعيل الذي يليه، من أمثال: أحمد بن إبراهيم الغزاوي، ومحمد بن عبد الله بن عثيمين، ومحمد حسن عواد، وخالد الفرج، وفؤاد شاكر، ومحمد بن بليهد.
وحينما شرع الأستاذ سعد بن عبد العزيز الرويشد في جمع قصائد الشاعر ابن عثيمين في ديوان ضخم يليق بشاعر نجد الكبير، كانت صحيفة أم القرى من أبرز مصادره؛ إذ حفظت (أم القرى) قصائده من الضياع، واستعان في إنجاز هذا العمل بمجموعة الشيخ محمد سرور صبان المجلدة، فصار ينسخ تلك القصائد بيده قبل اختراع مكائن التصوير الحديثة، ومعظمها في مدح الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - الذي بهرته بطولته وشجاعته، وإغداقه المال والهدايا على الشعراء، مما شجعه على تخليد بطولات ومعارك المؤسس في قصائده الجياد.
ولا بد من الإشادة بعمل جليل قام به د.منصور الحازمي في وقت مبكر، وهو إصداره لمعجم المصادر الصحفية، لدراسة الأدب والفكر في المملكة العربية السعودية، صدر في عام 1394هـ/ 1974م، وكان ينوي الاستمرار في هذا المشروع، وتكشيف بعض صحف ذلك العهد، ولكن مشروعه توقف - للأسف - عند صحيفة أم القرى وصوت الحجاز، وهو عمل طيب وجهد مشكور، أفاد الباحثين والدارسين، إذ بلغت مواد المعجم (1208) مادة.
كما تعد صحيفة أم القرى من أهم المصادر لتدوين الأحداث السياسية والتاريخية المحلية التي تبرز كفاح الملك عبد العزيز في القضاء على بعض الفتن، فظهرت في السنوات الأخيرة بعض الكتب التي عنيت بجمع ما نشر في تلك الحقبة، مثل: «يوميات الدبدبة» و»البلاغات والأوامر الملكية في صحيفة أم القرى»، كما أن وزارة المعارف - وزارة التعليم حاليًا - جمعت ما كتبه الأستاذ يوسف ياسين من حلقات في صحيفة أم القرى في كتاب صدر عام 1389هـ بعنوان «الرحلة الملكية»، وهي الرحلة التي قام بها الملك عبد العزيز على ظهور الإبل عام 1343هـ من مدينة الرياض إلى مكة المكرمة، وفيها وصف دقيق لما مر به موكب جلالته من مواضع وأماكن وهضاب وجبال، وقامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإعادة طباعة هذا الكتاب في طبعة أنيقة وفاخرة، بعد نفاد نسخ الطبعة الأولى.
أرجو في ختام هذه الكلمة أن تقوم وزارة الثقافة ووزارة الإعلام - الجهة المشرفة على هذه الصحيفة - بإقامة احتفالية خاصة بهذه المناسبة الكبرى، وحبذا لو أصدر البريد السعودي طابعًا تذكاريًا مميزًا لتخليد هذه الذكرى والمناسبة الجميلة، التي لن تتكرر إلا بعد 100 سنة.
** **
- سعد عائض العتيبي