1
بصوت هادئ؛ لكن بعباراتٍ حازمة، قال أمير القافلة، للزوجة المرعوبة؛ قليلون يعرفون خبايا هذا الدحل، وقلةٌ منهم غامرت بدخوله، وقليلٌ من تلك القلة خرج منه سالماً. ولقد حذرت زوجك من الأخطار، التي قد تكون في انتظاره في سراديب هذه الهوة المظلمة؛ لكنه أصر على رأيه، وقال انه تردد عليها كثيراً في الماضي، ويعرف أماكن وجود الماء فيها. لست إنساناً قاسي القلب كما قد يبدوا من حديثي، فأنا حزين جدا لمصابك، أدرك واشاطرك ما تشعرين به من ألم؛ لكنني مسؤولٌ عن هذه القافلة. حيات أفرادها، حياتك وحياة اطفالك، مرتبطة بمدى التزامنا بمواقيت سيرنا. الغذاء يوشك على النفاذ والماء كما ترين، ولا نستطيع الانتظار كثيراً. نبيت الليلة هنا، ونبحث عنه، مرة أخرى، في الصباح.
كان حسين واحداً من الجماميل العاملين على هذا الطريق، بين العارض وهجر، وكثيراً ما ورد على هذا الدحل، فما أن حطت القافلة، حتى حمل قربته واتجه إلى داخله. ولما لم يجد ماءً في القلات القريبة، اتجه إلى مكان آخر بعيد، وصعب المسلك، وقليلٌ من الناس يعرفه أو يجرؤ على بلوغه. ملأ قربته من حفيرة ماءٍ في نهاية النفق، وحملها عائداً؛ لكن صخرة ثقيلة كانت قد سقطت بعد عبوره باتجاه الماء، فسدت الفتحة الضيقة والوحيدة، التي عبر منها، فبقي حبيساً لا يدري ما الحيلة، تتجاذبه الهواجس، بين الخوف من أن يكون قد دنى أجله، والأمل بأن يقيض الله له من ينقذه.
في صباح اليوم التالي، نزل عددٌ من الرجال الى داخل المغارة للبحث عنه، وخيل لحسين أنه كان يسمع أصواتهم، لكن أحداً لم يقترب من محبسه أو يسمع استغاثته، فخرجوا تاركينه خلفهم. قال أمير القافلة للزوجة، لا شيء نستطيع فعله الآن، والافضل أن نواصل سيرنا، وإن أسرعنا فلن يستغرق ما بقي من الرحلة اكثر من يومين. وأضاف لتهدئتها واقناعها؛ ومن هناك تستطيعين استئجار رجالٍ يخبرون المكان، وسيتمكنون من إنقاذه، بإذن الله.
لم تكن الجازي من ذلك النوع من النساء، اللاتي يستسلمن لمحن الحياة بسهولة، وحين تصبح حياة حسين في خطر، فلا شيء أمامها مستحيل. قالت لأمير القافلة، اليومان طويلان، هذا هو المال وأريدك الآن، أن تبعث شخصاً من خيرة رجالك على واحدة من أسبق ابلك، لاكتراء رجلين ممن ذكرت، وتجهيزهما بما يحتاجان، ويعدهما بأنني سوف أزيدهما من المال بعد انتهاء المهمة. فاجأه الطلب؛ لكنه لباه على الفور، واستشعر من نبرة صوتها أنها ترى أن ذلك غير كافٍ، وتضمر شيئا ما.
حين حزمت الأسرة أمتعتها تاركةً مقرها السابق، باتجاه هجر، كانت النية ان تكون سفرتها الأخيرة، بعد أن انهكها الترحال، وان تكون هجر محطة المنتهى، وموطن الابناء والاحفاد، قبل أن تأتي تلك الصخرة فجأة، لتعترض الطريق. مع أن حسين لم يعد يميز ليله من نهاره، فقد قدر أن المدة التي توقع أن يبحث عنه القوم خلالها، انتهت، وأنهم قد رحلوا، ومعهم الجازي والأطفال، فاستولى عليه اليأس والخوف، بداية على نفسه من موت محقق، ليتلاشى مع مضي الوقت، أمام الخوف على أسرته، وكيف ستكون حياتها من بعده. إنها الدنيا «نكارة النعيم، ان زخرفت لك يومٍ تبكيك يومٍ ثاني». منذ شبابه المبكر وحسين في حالة تنقل، بدأت مع نزوح الاسرة من موطنها القديم نحو الشمال، مروراً بأجمل أحداثها، وأكثرها إثارة، حين انفصل مع شقيقه الاكبر عبد الله، عن جماعته اثناء اقامةٍ قصيرة قرب أحد موارد المياه.
2
بعد راحةٍ قصيرة، أعادت فيها التقاط انفاسها، من عناء رحلة طويلةٍ وشاقة، عبر صحاري نجد الشاسعة، شدت القافلة رحالها من جديد، مواصلةً رحلتها باتجاه الشمال. لكنه أصبح عليها من ذلك اليوم، أن تعتاد على الحياة دون أثنينِ من خيرة فتيانها، بقيا حبيسي عشقٍ غمر قلبيهما في تلك الناحية. فعبد الله، الذي كان رغم صغر سنه إمام القوم ومحدثهم، قبل الرحلة وأثنائها، وقع أسير العلم على يد إمام مسجد القرية وشيخها، أما الفارس حسين، الشقيق الأصغر لعبد الله، فقد اسرت قلبه حسناء، بدى في أول الأمر، أنها كسرت شموخه، حين منعت خيله وإبله من الوصول إلى مورد الماء، قبل أن تسقي ابلها، وتحدثت إليه من فوق راحلتها، قائلةً، إن عليه أن ينتظر
حتى تنتهي، ثم يتقدم، ان بقي ثمة ماء. وبقدر ما استفزه فعلها، وقد سبقها باتجاه المورد، فقد أبت عليه مروءته، وهو الفارس سليل الفرسان، أن يجادلها في الأمر، وشبهها بمهرةٍ بريةٍ شموص، تنتظر مروضها. وحين طارت الريح بخمارها وانبلج نور وجهها من بين خصلات شعرها المتموج، طار صوابه؛ لكنه سرعان ما استعاد توازنه ووقف فوق ظهر حصانه، ليعترض برمحه الخمار الطائر، ثم يتجه إليها، غاضاً بصره ليناولها إياه. شكرته على صنيعه، وأضافت، بصوتٍ غنوج؛ ومع ذلك ستنتظر، فقد أتلفت خماري. ولم يكن في تلك اللحظة ما هو أحب إليه من الانتظار وتمتيع بصره بطلتها. صدرت إبلها، وابعدتها عن المورد، مفسحةً المجال له، وبقيت واقفةً غير بعيد تر اقب هذا الغريب، الذي ما أن وصل إلى القرية حتى صار حديث صباياها. أورد خيله وإبله، ولم يكن الماء قليلاً كما أوهمته، فاستنتج أنها كانت تشاكسه، وربما أصابها ما أصابه، وبداء خياله في الحال ينسج الفخ الذي سيقع فيه، ويبقيه بعيداً عن أهله وعشيرته، حتى يحكم الله ما يريد.
التحق عبد الله في حلقات شيخه الذي توسم فيه طالب علمٍ نجيب وبيت نية تزويجه، ومساعدته لاستقطاع ارضٍ يفلحها ويعيش منها. أما حسين، الذي كان طلب العلم، أيضا، سبب بقائه المعلن، فقد أشغلت باله تلك الفتاة وكيف يكسب ودها. وقد أدرك الشيخ من اليوم الأول، ان حسين لم يتخلف عن قافلته، لطلب العلم، انما لشأنٍ آخر، ولم يقلل ذلك من اعجابه بهذا الفتى، الذي لم تفت عليه نباهته وشهامته.
كان والد الجازي في خريف عمره، بدويٌ مل الترحال وقرر العيش في تلك القرية، يرعى إبل مزارعيها إلى جانب إبله، تساعده في ذلك ابنته الوحيدة، التي لم يبق له غيرها، بعد وفاة والدتها قبل اعوام. وكانت الأسرة تسكن على أطراف المدينة، حالها حال من سبقها من بدوٍ أغراهم الاستقرار، ولم يعتادوا، بعد، على حياة القرى، بدورها المغلقة. ورغم صغر سنها فقد، بلغت مبلغ النساء، بل ومبلغ الرجال، حين تنوب عن والدها في بعض المهام، مكحلةً بذلك جمالها وأنوثتها الطاغيتين. ولا غرابةَ أن تكون محط أنظار فتيان القرية، بل ورجالها، وأن يتسابقوا على الفوز بها؛ لكنها لم تكن
راضيةً عما تخشى أن تؤول إليه حياتها؛ إما فلاحةً منهكة طول يومها، أو ربة بيت محبوسةٌ بين أربعة حيطان لا ترى إلا السماء، والأصعب من ذلك، والدها، الذي سيكون عليه مكابدة الحياة وحيداً، وهو الذي كثيراً ما تمنى أن يرى أحفادها يملؤون حياته قبل أن يموت.
سرعان ما انتشر خبر بقاء الأخوين في القرية لطلب العلم على يد شيخها، وكان ذلك أيضاً هو الخبر الذي جلبه الشيخ إلى ابنته حين اجتمعا حول النار، ذات مساء، ثم امتدح حبهما للعلم، وغبطهما على ذلك، ودعا لهما بالتوفيق. لم تعلق الجازي على كلام والدها؛ لكن شيئًا ما تحرك في كوامن نفسها، جعلها تقوم بحركة لا إرادية، فتدور حول البيت ومناخ الإبل، مبررة ذلك، بعواء ذيب لم تجد له أثرا.
بعد أن يصلي حسين الفجر ويقرأ قليلا على الشيخ، يأخذ عدة القنص ويركب حصانه، فيجوب البراري المحيطة بحثاً عن صيد يعود به، ولا ينسى في كل مرة أن يمر على الأماكن، التي اعتاد أبو الجازي أن يرعى بها إبله، مصطحباً ابنته أحياناً. نادراً ما عاد حسين من رحلته خال الوفاض، لكنه كثيراً ما حدث نفسه بأن هذا ليس هو الصيد، الذي بقي من أجله في تلك البقعة من أرض اليمامة.
لفت انشغال الفتى بالقنص، نظر والد الجازي، بعدما تكررت مشاهدته له، يجوب البراري صياداً، بدلاً من الانشغال بالعلم، الذي بقي من أجله. ومع أنه سبق وتحدث مع شيوخ القافلة التي انفصل عنها الشابان، فقد قرر أن يسبر غور هذا الفتى، فمن يدري ما هي نواياه، وما هو غرضه الحقيقي من البقاء، بل ربما كان الأخوان، كلاهما، ينويان على شيء، وما حجة طلب العلم إلا تمويها. وذهبت به الظنون بعيداً، وخاف أن يكونا في مهمة ثأر، وقد يكون هو المستهدف، أو ابنته أو كلاهما. وعاد بذاكرته إلى الوراء، أيام شبابه، يوم كان واحداً من فرسان قومه، وكثيراً ما اشترك في مناوشاتٍ مع أقوامٍ آخرين حول مورد ماء أو حدود مرعى؛ لكنه لا يذكر حالات
تستدعي الثأر. ثم قلل من خطورة الأمر، فقد كان لدى الرجل أكثر من فرصة ليقضي عليهما ويختفي مع أخيه، ولم يفعل.
لم يمض وقت طويل حتى تقاطعا طريقاهما، وبعد تبادل السلام، والحديث عن القنص والخيل والإبل، تحدث أبو الجازي باختصار عن نفسه وكيف استوطن القرية ولماذا، وأثنى على أهلها. ثم بدأ بالتبحر في عالم الفتى، من ولادته حتى قراره ترك قومه والبقاء هنا. وفي ختام حوارهما، الذي سار بانسجام، وخرج كل منهما بانطباع إيجابي عن الآخر، كان على الشاب أن يبرر عدم تفرغه للمهمة، التي قيل أنه بقي من أجلها. فاعترف أنه لم يبق من أجل العلم، فلديه منه ما يكفي لأداء عباداته؛ بل من أجل غيداءَ، وقع في فخ عشقها منذ أول يوم ٍشاهدها على مورد الماء، ولم يكن والد الجازي يعرف أن فتاةً غير ابنته، ترد مع ابلها على هذا المورد. حركت كلمات الفتى القليلة شجون الشيخ، وعادت به الذاكرة إلى سنين خلت، حين خطفت عقله والدة الجازي، وما فعله لجذب اهتمامها، والحِيَل، التي حبكها للفوز بها، ثم ودع الفتى دون أن يعلق على ما قال. وفي المساء حدث ابنته عن لقائه مع الشاب، وكانت هذه المرة أكثر تماسكاً من المرة الأولى؛ فلم يبد عليها أي ارتباك، وسألت ابيها، عما تحدثا. وبعد أن أوجز لها المحادثة، قال إنه يفكر في أن يعرض على الفتى العمل عنده، فهو وقد تقدم به السن، وهي تنتظر نصيبها، بحاجةٍ إلى من يسانده، وقد أحس بارتياح إلى هذا الغريب. قالت له، أما عن الغريب، فكلنا غرباء، وكما قيل الغريب للغريب قريب، ول عل الله أن يجعل فيه البركة. أما عني، فبعد وفاة أمي بقيت أنت وحيداً من أجلي، فهل تراني أتخلى عنك؛ من أجل رجل آخر، هذا لن يحدث. من يريد ابنة صقر، فليقبل بصقر أباً، آمراً وناهياً، هذا هو مهر ابنته. قبِلَ حسين بدفع المهر، وتم الزواج، وبقي إلى جانب الجازي ووالدها.
الأيام حُبلى بالمفاجآت، منها السار ومنها المحزن، فلم تمضِ سنوات قليلة حتى توفي صقر، وغادر عبد الله مع شيخه، الذي أصبح قاضياً في بلد آخر. فبقي حسين والجازي وحدهما مع رضيعهما. وإذ خلا المكان من
الأحباب، فلم يعد له في قلبيهما مكان، فرافقا قافلةً كانت متجهةً إلى الشمال، مروراً بموطن عشيرة حسين الجديد على ضفاف وادي الرمة.
كانت العشيرة قد استقرت في المكان، وبنت لها موطناً، مزدهراً بالتجارة والزراعة وحلقات العلم والحرف المختلفة، فأخذ حسين مكانه بينها تاجراً في الخيل والإبل. لم تشغل أنشطة الحياة، الآخذة في الاتساع، زعماء العشيرة، عن طموحهم في بناء بلدة خاصةٍ بهم، لا يشاركهم بزعامتها أحد، وإذا كان ذلك غير ممكن ٍحيث هم، فليكن في مكانٍ آخر. سنّد نفر منهم على امتداد الوادي غرباً، فوقع اختيارهم على واحةٍ واسعةٍ على ضفته الشمالية، وقرروا الانتقال إليها وعمرانها، عدا من طاب له المكان وارتبطت به معيشته، فبقي حيث هو.
في الوطنِ الجديد، حيث لا منازع، كانت الهمةُ أكبر، فسرعان ما بانت معالم البلدة من مساجد ومزارع وبيوت، فذاع صيتها، واستهوت افئدة الكثير من الناس، فقدموا إليها من البلدات المجاورة، بل ومما هو أبعد. ولاستكمال مقومات ذلك المجتمع الجديد، أصبح ثمة حاجةٌ لقاضٍ وامامٍ للجامع، والأفضل أن يكون واحداً منهم، فاقترحوا على حسين أن يذهب لإحضار أخيه عبد الله، الذي لا شك أنه قد أصبح مؤهلاً لتلك المهمة. سافر حسين حاملاً إلى أخيه رغبة العشيرة تلك؛ لكن الأخير كان قد التزم بمهمة مماثلةٍ في العارض، واقترح على القادم إحضار زوجته وأطفاله والإقامة معه. قبل اقتراح عبد الله، كان حسين قد لاحظ أن الجازي لم تستطع التعود على إيقاع الحياة الجديدة، ولا كسر حاجز الغربة، بينها وبين المجتمع الجديد. ومع أنها لم تفاتح زوجها بالأمر أبداً، فإنه قد لاحظ عليها ذلك من الأيام الأولى لالتحاقهم بالعشيرة، لكنه تبين أكثر في البلدة الجديدة، ولذا لم يكن بحاجةٍ للكثير من الإقناع؛ ليقبل اقتراح أخيه.
أحضر حسين أسرته وبدأ حياةً جديدة في العارض، مستمراً بتجارة الخيل والابل، ثم ما لبث أن انتقل منها إلى الجمالة، بين العارض وبلاد هجر. وبعد أن ظنا أنها نهاية الترحال، توفي الشيخ عبد الله فعاد إليهما نفس الشعور
بالغربة، الذي عاشاه بعد وفاة والد الجازي. أصبح عليهما الآن أن يختارا، إما العودة إلى موطن العشيرة، التي قل ارتباط حسين بها بعد أن غاب عنها ردحا من الزمن، وتوفي والداه، أو أن يبدآ حياة جديدة في هجر، كما هي رغبة الجازي، فاختارا الأخيرة، والتحقا بإحدى القوافل المتجهة إلى هناك.
3
وصل مبعوث أمير القافلة، واتفق مع رجلين ذوي خبرة في دحول الصمان، وجهزهما، كما طلبت الجازي، بمطيتين ومؤونةٍ كافية، ووعدهما بالمزيد من المال إن هما عثرا على الرجل. انطلق الرجلان بأسرع ما تسطيعه ناقتيهما؛ لكن ما لبثت أن هبت عاصفة، تبعها ظلام دامس، أضطرهما إلى التوقف واناخة مطيتيهما والتذري معهما بإحدى الصخور. في صباح اليوم التالي، واصلا سيرهما، حتى كانا في عشيته على مقربة من الدحل. نزلا داخله في الصباح، وبحثا فيه معظم النهار، ولم يعثرا للرجل على أثر، وتأكدا من أنه لم يعد موجوداً هناك، عدا أن يكون قد سقط في ذلك الثقب العميق الذي لا قعر له، ولم يذكر ان احداً وقع فيه ونجا؛ لكن كثيري التردد على الدحل من أمثال حسين يعرفون مكانه ويحذرون الاقتراب منه. عادا خائبين، فلم يعثرا على المفقود، ولن يحصلا على المال، الذي منيا نفسيهما به؛ لكن الجازي استقبلتهما على غير ما توقعا، فقد بدت عليها السعادة، ودفعت لهما ما وعدت من مالٍ بالإضافة إلى المطيتين.
** **
- إبراهيم العلي الخضير