جاء في كتاب العين (119/1): «المخلَّعُ مِن الشِّعر: ضَرْبٌ من البسيط يُحذف من أجزائه، كما قال الأسودُ بن يعفر:
ماذا وقوفي على رسمٍ عفا
مخلولقٍ دارسٍ مستعجمِ»
وفي الكتاب ذاته والصفحةِ ذاتها يقول تلميذُ الخليل وهو الليث بن المظفر:
«قلتُ للخليل ماذا تقول في المخلَّع؟ قال: المخلَّعُ من العروض ضربٌ من البسيط وأَوْرَدَه». يعني أورد بيت الأسود بن يعفر.
وما من شكٍّ أنَّ هذا النصَّ مِن كتابِ العين سيبعثرُ كثيرًا من الآراء حول مخلَّع البسيط مِن أنَّه قَطْعُ (مستفعلن) وخَبْنُ (مفعولن) في المسدَّس، وهو رأيٌ روَّجَ له الجوهريُّ (393هـ) في كتابه عروض الورقة، ولقد شاع هذا الرأي بين العروضيين مِن بعدِهِ، وهو مخالفٌ لرأي الخليلِ، ولذا فقد ظَهَر مِن العلماء من يخالف الجوهريَّ، ومِن هؤلاء المخالفين الزمخشريُّ (538هـ) حيث أكَّد في قُسْطاسه أنَّ المسدس هو المخلَّع ولم يَنسب هذا الرأيَ لأحدٍ وقد يَظنُّ بعضُ المحققين أنَّه رأيٌ انفردَ به صاحب القُسْطاس والحقُّ أنَّ هذا هو رأيُ الخليلِ قَبْل أنْ يكون رأيَ الزمخشريِّ كما هو مُثبتٌ في كتاب العين، ورأيُ الخليل هذا يتمثل في ما يلي: أنَّ المخلَّع هو المسدَّس الذي سَقَطت منه (فاعلن) الثانيةُ والرابعة، ووزنه هكذا:
مستفعلن فاعلن مستفعلن
مستفعلن فاعلن مستفعلن
وإذا قُطِعت (مستفعلن) سُمِّي المخلَّعَ المقطوعَ، وإذا قُطِعت وخُبِنت سمِّي المخلَّعَ المكبولَ، وإنْ كنت لا تزال في ريبة من الأمر؛ فإنَّ حقيقة التسمية قد تقودك إلى مزيدٍ من الاطمئنان إذْ إنَّ معنى المخلَّعِ في اللغة: الـمُنْتَزع، أي المنتزع من البحر البسيط.
وهنا يرد السؤال الأهم: هل جَعَل الخليلُ المخلَّع بحرًا مستقلَّاً بذاته؟
أظنُّ أنَّ الإجابة عن هذا السؤال فيها مجازفة لا تخفى، لكن دعونا نقرِّب الفكرة، فإنَّ الخليلَ لم يسمِّه (المخلَّع/ المنتزع) إلا ليبيِّنَ لنا أنَّ هذا الوزن فيه استقلالية خاصة، وإلَّا لكان قد سمَّاه المجزوءَ وانتهى الأمر، لكن الخليل لم يَفعل، لأنَّه كان يريده بحرًا مستقلَّاً بذاته فيما يبدو، وإذا كان كذلك، فمن هو الذي ألغى عَمَل الخليل وقام بدمج المخلع بالبسيط.
من خلال استنطاق بعضِ كتب العروض نجد أنَّ المخلَّع عند أبي الحسن العروضي (342هـ) هو ما كان عروضُه وضربُه على (فعولن) المكبولة أي المقطوعة المخبونة، أمَّا الجوهري فإنَّ التخليعَ عنده هو ما كان عروضُه وضربُه على (مفعولن) المقطوعة أو (فعولن) المكبولة، في حين أنَّ الزمخشري في القُسطاس يقول برأي الخليل -كما قلنا سلفًا- وهو أنَّ المسدَّس هو المخلَّع، ويقول ابن الخبَّاز شارحُ القسطاس (639هـ) مؤيدًا ومفصلًا قول الزمخشري: إذا كان ضرب المسدس مقطوعًا فهو المخلَّع المقطوع وإذا كان ضربه مكبولًا فهو المخلع المكبول. ويُفهم من كلام ابن الخباز أنه إذا كان سالـمًا يسمَّى المخلَّع السالم، وإذا كان مُذالًا يسمى المخلَّع المذال.
ومن خلال هذا يتَّضحُ الصراعُ الكبير والاضطراب الصارخ في معنى المخلَّع وهو ما يجعلنا نفترض استقلالية هذا البحر عند الخليل ابتداءً، ثم وجود دمج في مرحلة ما بَعْد الخليل، وبالرجوع إلى كتاب العمدةِ فإنه يمكننا أن نعرف كيف حصل الدَّمج، إذ لا يَبْعُد أنْ يكون قد حَصَلَ باجتهاد أحد المعاصرين للخليل، وربما يكون الدمجُ جاء من قِبَل الأخفش الأوسط، يقولُ ابنُ رشيق (453ه) في العمدة: «إنَّ الخليل ألَّف كتابَ العروضِ ثم ألَّف الناسُ بَعْدَه واختلفوا على مقادير استنباطاتهم حتى وَصَلَ الأمرُ إلى أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري فبيَّن الأسماءَ وأوضحها في اختصار». فقولُ ابنُ رشيق: إنَّ العروضيين اختلفوا على مقادير استنباطاتهم. يؤكد لك أنَّ عِلم الخليلِ قد غيَّرته يَدُ الزمن عَبْرَ مؤلفات لم يبقَ لها خَبَرٌ ولا أَثَر، وما بَقِي لنا هو نُتَفٌ هنا وقطوفٌ هناك؛ ومنها على سبيل المثال: إضافةُ الأخفش بحرًا سادسَ عشر، ودَمْجُ أبي نصر الجوهري بعضَ البحور في بعض حتى أصبحَتْ عنده اثني عشر بحرًا. وفي الختام أقول إنَّ ملخَّص هذه الفرضية التي قد لا تخلو من اعتراضات هو أنَّ البحور التي اعتمدها الخليلُ ستة عشر؛ حَذَفَ الأخفشُ المخلَّعَ وجَعَلَهُ من مجزوء البسيط، وأضافَ المتدارك.
** **
- منصور بن عبد الله المشوح