مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
يؤكد الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي أستاذ أصول الفقه ورئيس التوعية الفكرية بجامعة أم القرى، والمشرف على أنشطة وقف سلف للبحوث والدراسات، يؤكد أن بعض السلفيين استقطبهم الفكر الأممي الذي أصبحوا به بعيدا عن التعامل مع الواقع القطري العالمي، وبعضهم انزلق إلى فكر العنف، مشيراً إلى أننا على أبواب عودة للتدين جديدة، وستكون مستفيدة من التجربة التي عشناها مع نهاية القرن الماضي، وسيكون تديناً أكثر وعياً وعلماً وهدوءاً.
ويعد الدكتور محمد السعيدي من أميز المتخصصين الشرعيين في الساحة الإعلامية، وله عشرات المؤلفات والأبحاث، والمحاضرات إلى جانب مشاركته في أنشطة وفعاليات اجتماعية، وإسهام ثر في المؤتمرات والندوات في داخل المملكة وخارجها.
«الجزيرة» التقت مع الدكتور محمد السعيدي في هذا الحوار، الذي تناول عددا من القضايا الشرعية والفكرية، وفيما يلي نص الحوار:
* لكم رؤى وأطروحات متعددة عن «السلفية»، فما هو تصوركم لواقعها الذي طعنت به في عقر دارها؟
- واقع السلفية اليوم هو في تصوري واقع تجديد حياة وإعادة تأهيل لأهلها، فلا يخفى الجميع أن كل دعوة سواء أكانت صالحة أم طالحة تمر بمرحلة حماس ثم استقرار، ثم تصبح عند أهلها عادةً وإلفاً، وهذه المرحلة الأخيرة تكون عادة بداية مرحلة الانشطار والذبول، والتعامل مع هذه المرحلة هو الذي يحكم على هذه الدعوة إن كانت ستبقى أو تندثر؛ والسلفية اليوم تعيش في هذه المرحلة، وأعتقد أن تعامل السلفيين مع دعوتهم اليوم يشوبه كثير من الأخطاء إلا أنه حتى مع هذه الأخطاء هو في مجموعه مدافعة وممانعة وإعادة بعث لهذا المنهج من كونه إلفاً وعادة وتُراثاً إلى كونه رسالة؛ وأتأمل في هذا الحراك بين الانشطارات السلفية أن يؤول إلى وحدة، وأملي هذا مبني على أن مبررات الانشطار سوف تتلاشى قريباً، ومن هذه المبررات الاختلاف حول بعض النوازل لاسيما السياسية، وأيضا البعد عن تحرير بعض المسائل المهمة والتي كان سبب البعد عن تحريرها ضعف الجانب الرسالي لدى السلفيين في المرحلة الأخيرة، وكذلك الكيد للسلفية عن طريق العمل على تشتيتها وزرع الفتن بين المنتسبين إليها، وهذه المبررات كما يُلاحظ المتابع آخذة في التلاشي، فالجانب العلمي والرسالي بدأ في النشاط بقوة، والنوازل التي كانت محل خلاف لم يضعف الخلاف فيها؛ لكنه بدأت صورته تتضح أكثر ولا يُعد في كثير منه خلافاً يُخرج صاحبه من كونه سلفياً.
* تشتد الحاجة اليوم إلى فقه النوازل، فهل لدينا فقهاء متخصصون يحسنون الفهم الفقهي الصحيح المستمد من روح الدين وأهدافه الإنسانية الذي يسهم في تخفيف معاناة المستضعفين؟
- فيما يتعلق بالنوازل في جانب الطب والاقتصاد والفلك وأشباه ذلك نعم لدينا متخصصون أصحاب قُدُرات عالية، أما النوازل السياسية، فللأسف بعض السلفيين استقطبهم الجانب الديمقراطي وأصبحوا على توافق في هذا الجانب مع التيارات الإسلامية التي توصف بالليبروإسلامية الأمر الذي أدى إلى اصطفافهم معهم وتأثرهم بهم حتى وصل التأثر في بعض الجوانب إلى الأحكام الفقهية والتعامل مع مصادر التلقي وأصبحنا بذلك نشهد بعض ما يطلق عليه بدايات الانتكاس.
وبعض السلفيين استقطبهم الفكر الأممي الذي أصبحوا به بعيدين عن التعامل مع الواقع القُطري العالمي وبعض هؤلاء انزلق إلى فكر العنف.
وبقي الفهم السياسي السلفي دون تأطير علمي، وإن كان مُعاشاً لدى المؤمنين به كواقع، فمبدأ طاعة ولي الأمر في غير معصية مع أنه دين يجب العمل به إلا أنه لازال يُنظر إليه كأمر شرعي فُرض لدرء المفسدة ولا يُنظر إليه على أنه مبدأ في الفهم السياسي للدولة في الإسلام ومبدأ سياسي لأولويات الإصلاح في الإسلام.
* ظاهرة تصنيف الناس مرض قديم يتجدد بشعارات متنوعة، ألا ترون أن الحسد والغيرة سند قوي لنشأته، ويسبب خللا في التماسك الاجتماعي، واللحمة الوطنية؟
- الحسد والغيرة هي سبب لتمكن التصنيف وزيادة ضرره، لكنها ليست سبباً لنشأته، إذ إن نشأة التصنيف جاءت كردة فعل مساوية في القوة ومعاكسة في الاتجاه للاستقطاب الأُحادي الذي ساد لدى الدعاة الشباب في بداية العشر الأولى من هذا القرن والذي كان مبنياً على فكر الشك الدائم في الدولة والتدريب على التمرد عليها والحديث الدائم عن حقوق الرعية ومنها ما كان صحيحاً ومنها ما كان مفترى، فنشأ كردة فعل له تيار ينادي بقوة بالثقة بالدولة وطاعة ولي الأمر، ويُذكر بحقوق الراعي على الرعية، وهذا التيار أنقذ الله به البلاد في نهاية العشر الأولى وما بعدها من كارثة بين الشباب؛ فنشأة هذا التيار كانت حميدة بل ضرورية، إلا أن بعض من تبناه اختلط في صدره مع الحرص على الدولة والراعي والرعية شيء من الحسد والأمراض النفسية فبدأ بالتصنيف واتهام كل من يخالفه بالإخوانية والسرورية والخروج عن السلفية.. وهكذا، وفي مقابلة بقيت التيارات السرورية والإخوانية تُصنِّف كل من خالفها بانتمائه تارة إلى الفكر التصنيفي وتارة تتهمه بكونه من علماء السلاطين.. إلى آخره.
والحق أن الواقع ليس بحاجة كلا الفريقين؛ بل نحن في حاجة إلى سلام فكري يقوم على العمل بالنصوص الشرعية القاضية بلزوم الطاعة ولزوم الجماعة وعدم الافتيات على ولي الأمر من جميع الأطراف وحفظ أعراض الناس من الغيبة والبهتان وتقديم الحب الذي أمر نبينا محمد به والشفقة على التصنيف والاستعداء.
* ما رؤيتكم لواقع الإفتاء اليوم، وهل ترى أن المجامع الفقهية قامت بدورها المنشود في خدمة قضايا الأمة؟
- الحقيقة أن المجامع الفقهية خارج السعودية يؤسفني أن أقول إنها بدأت تنحو منحى خطيراً جداً وذلك بالتنازل للواقع المعاش بين المسلمين، فبدلاً أن تعمل على تكييف الواقع ليكون ممتثلاً للفتوى التي هي ابنة الاستنباط من النص الشرعي، أصبحت تعمل على تكييف الفتوى على وفق الواقع، أما المجامع السعودية وما في حكمها كهيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة فالأمر ولله الحمد فيها لازال على المعهود.
والشكوى الأكبر في بلادنا في مسألة الفتوى هي في عدم خضوعها للاختصاص بل أصبحت حمى مستباحا من كل أحد، مع أن هناك أمراً ملكياً بمنع الفتوى العامة إلا لمفتٍ مأذون من جهات الاختصاص، وأتمنى تفعيله وجعل هيئة كبار العلماء هي الجهة الآذنة.
* يؤكد بعضهم أننا على أبواب جاهلية جديدة في ظل الحروب التي شنها على الدين من كل الاتجاهات، هل ترى ذلك؟
- الذي يظهر لي أننا على أبواب عودة للتدين جديدة، وستكون عودة مستفيدة من تجربة عودة التدين التي عشناها مع نهاية القرن الماضي، وسيكون تدينا أكثر وعياً وعلما وهدوءًا.
* يصف بعض علماء الأمة أن العالم الإسلامي يعيش الآن حالة رهيبة من التخلف والضعف.. رأيكم؟
- هذا صحيح، لكنه بكل المقاييس أفضل بكثير من حال الأمة حتى نهاية الستينات الهجرية، لذلك وبالرغم من كل شيء فإرهاصات القوة كبيرة لمن نظر للواقع بعينين.
* في المجتمع الإسلامي لعب الوقف دوراً مهماً على صعيد التنمية الاجتماعية، وفي عصرنا الحالي يلاحظ أن هذا الدور يشهد تراجعاً كبيراً.. أين تكمن المشكلة؟
- تكمن المشكلة في تبني الدول الإسلامية جميعها الفكر الأوربي الذي كان سائداً في أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو فكر مسؤولية الدولة عن المواطن من الولادة حتى الوفاة، وهو نظام عجزت أوروبا عن تطبيقه فاستبدلته بنظام التأمين، وكلا النظامين خاطئان.
والصواب هو العودة إلى الفكر الإسلامي في مسؤولية الدولة وهو فكر الوقف، فالأوقاف يجب أن تغطي كل شيء من احتياجات المواطن وأهمها الصحة والتعليم، وتبقى مسؤولية الدولة في الحماية بكل أشكالها حماية الأبدان والأرواح وحماية الدين والعقل والمال والعرض وكل ما يتفرع عن ذلك والتطوير التقني والاستراتيجي ووضع الخطة التي تسير عليها البلاد، وكل هذه مسؤوليات ضخمة، ويقوم الوقف بما عداها، كما للدولة أن تشارك في بناء الأوقاف، وأيضا أن تجعل ريع هذه الأوقاف يصرف على الخدمات التي تقدمها هي.