تتمتع محافظة الزلفي بموقع جغرافي فريد من نوعه، إذ إنها تقع بين حافة جبل طويق ونفود الثويرات ممتدة على شكل وادي ضخم تنحدر إليه سيول حافة طويق من الشرق وسيول النفود من الغرب ليمثّل حوض ماء كبيراً تناثر فيه المستوطنات على حواف الأودية المنحدرة من الشرق باتجاه الغرب، إضافة إلى حواف الأودية التي تنحرف باتجاه الشمال. وإلى الشرق من حوض الزلفي يوجد عدد من الأودية التي تأخذ سيولها من الهضاب والمرتفعات المنتشرة على هضبة طويق؛ وأكبر تلك الأودية وادي مرخ الذي تتجمع مسائله من الروابي الواقعة إلى الشمال الغربي من بلدة المجمعة، حيث تتجمع مياه عدد من الشعاب الضخمة ليتكون منها وادي مرخ الذي يزود روضة السبلة بالمياه الكافية لتقام عليها زراعة القمح الموسمية والتي لا تزال مزاولتها مستمرة من عصور موغلة في القدم حتى اليوم.
ويستدل من بيئة محافظة الزلفي ومكوناتها الطبيعية وموقعها المتوسط في شبه الجزيرة العربية على أنها تمتلك مصادر اقتصادية متنوّعة تندرج تحت الزراعة والرعي والتجارة. من حيث الزراعة القديمة، توجد آثار دالة على أنها نشطة في البطون وعلى مدرجات الشعاب التي تنطلق من حافة طويق، حيث تتوفر كمية من المياه الجوفية التي عادة ما تكون قريبة من السطح. بالإضافة إلى ذلك تكثر الأماكن الزراعية في السهل القريب من النفود في الجهة الغربية لحوض الزلفي حيث تتجمع مياه الأودية، لذا نجد أن أقدم المستوطنات في الزلفي تقوم في تلك النقاط. أما بالنسبة للرعي، فتتوفر المراعي في الصحاري المحيطة بالمحافظة من ثلاث جهات، كما توجد مناطق رعي على هضبة طويق من جهة الشرق وفي مجاري الأودية التي تخترقها.
وساعد على وجود الإنسان في محافظة الزلفي منذ عصور مبكرة الموقع الإستراتيجي الذي جعل منها نقطة عبور للقوافل التجارية المنطلقة من الوشم والقصيم باتجاه بلدان الخليج العربي عبر حفر الباطن، ومن ثم إلى الكويت، ومنها إلى بلاد الرافدين؛ أو باتجاه بلاد العارض ثم منها عبر الدهناء إلى شرقي الجزيرة العربية. وعلى من يُريد أن يسلك تلك المسالك أن يمر عبر منخفض الزلفي لكي يتجاوز حافة طويق من خلال سلوكه لمنافذ محددة تنقله من حوض الزلفي عبر حافة الجبل إلى ظهر الهضبة. أوجدت هذه المميزات حركة تجارية في الزلفي تستقطب منتجات القرى المتناثرة حولها، علاوة على منتجات البادية التي ترعي في مراعيها المختلفة فازدهرت بذلك الأسواق.
وتؤرّخ أقدم الدلائل الاستيطانية المكتشفة في محافظة الزلفي بالعصر الحجري الحديث بتاريخ ربما من الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد. ومن أبرز تلك الدلائل كميات من الأدوات الحجرية المتنوّعة مثل: رؤوس السهام، والحراب، والمثاقب، والمكاشط، والشفرات التي جُمعت من عدة أماكن، وبخاصة أطراف روضة السبلة، ومن مواضع مختلفة تقع في نفود الثويرات الواقعة إلى الشمال وإلى الغرب من محافظة الزلفي. وتشير المنشآت الحجرية المتعددة بأنماطها، والمتباينة في أحجامها، والمنتشرة على هضبة طويق وعلى الحافة المطلة على حوض الزلفي، والروابي المحيطة ببطون الأودية مثل وادي مرخ؛ على وجود استيطان موغل في القدم، اعتمد اقتصاده على الرعي والصيد ومن ثم الزراعة.
توجد في الزلفي المنشآت الحجرية المتمثلة بالمقابر الحجرية الركامية الضخمة، والمذيلات، والملاجئ الحجرية، والدوائر الحجرية الكبيرة التي يصل قطر بعضها إلى أكثر من مئة متر، وفي البعض منها يوجد عدد من المدافن الحجرية المركومة، كما يوجد منشآت مستطيلة وأخرى مربعة. ومن المرجح أن تكون هذه المنشآت لأقوام عاشوا قبل خمسة آلاف عام من الوقت الحالي، واستفادوا من الغابات التي كانت تغطي بطون الأودية والرياض المتناثرة حولها. وتفيد الدلائل الأثرية على استمرار الاستيطان في محافظة الزلفي منذ العصور الحجرية وحتى الوقت الحاضر باستثناء الفترات التي يقتضي الوضع الأمني النزوح عنها لفترةً وجيزة، وبالتالي تراجع عدد المقيمين فيها.
ومن الدلائل التي كشف عنها العمل الأثري إضافة إلى ما ذكر، نذكر عدد من النقوش والرسوم الصخرية المنقوشة على الروابي القريبة من وادي مرخ. تدل تلك الأعمال دون أدنى شك على استيطان الزلفي فيما قبل الإسلام. ويوجد مجموعات من المادة الأثرية المنقولة التي تدل على عمران الزلفي في العصور الإسلامية المبكرة وذلك مثل الأواني الفخارية التي عُثر عليها في أماكن متعددة، ومنها ما يمكن تأريخه بشكل قاطع بالفترة الأموية. ووجد من بين الأواني الفخارية أوان يمكن أن تؤرخ بالفترة العباسية مثل الأواني المزججة باللون الأخضر. وإلى جانب الأواني الفخارية، عُثر على كسر من أواني الحجر الصابوني الذي عُرف بقدرته على تحمل النار بدرجة عالية أثناء الطبخ. كما عُثر أيضاً على مجموعة من كسر الرحى الحجرية التي تدل على ممارسة الزراعة في العصور القديمة، وبعض المدقات والمساحن التي عادة ما تستخدم لطحن الحبوب أو جرشها.
** **
- أ.د. عبدالعزيز بن سعود جارالله الغزي